اليوم.. إذا ما استمر نقاشنا للإصلاح دون إعطائه مفهوم التغيير، يكون كلامنا ضربا من العبث الذي لا يفيد، حيث يستحيل الحديث عن استقلال القضاء دون تبديل الأشخاص والأجهزة والمؤسسات القائمة على تسييره، ولهذا التبديل مفهومان: الأول: شخصي، يتعلق بتناسب شخصية المسؤولين مع شخصيات موظفي المرفق موضوع المسؤولية، فالإحصاء يقول إن عدد القضاة في المغرب يناهز 4000، جلهم شباب تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والخامسة والأربعين، أما القواعد العلمية فتطبع على هذا العدد خلاصة فحواها أن هذه الشريحة لن تتفاهم ولن تتفاعل ولن يتلاءم أداؤها إلا مع مسؤولين من نفس عمرها، يحملون نفس همها الذي يتشارك فيه أغلب المواطنين. الثاني: قانوني، يتمثل في الضرورة الملحة لسن القواعد التشريعية الكافية لاعتبار القضاء سلطة مستقلة قائمة بذاتها إلى جانب السلطتين: التشريعية والتنفيذية، ويجد ذلك مكانه في التشريع الأسمى بالبلاد، وهو الدستور، لذلك يتعين الحرص على ألا يحمل دستور المستقبل مادة مثل المادة 82 من الدستور الحالي التي ورد فيها ما يلي: «القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية»، فكيف يكون القضاء مستقلا عن السلطتين وهو ليس سلطة مثلهما؟ لقد كانت النتيجة المنطقية لهذه المادة أن يكون القضاء محتاجا إلى سلطة ينتمي إليها، وكانت بالفعل هي السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل، وهذا ما جلب الويل عليه. وإلى جانب تغيير هذه المادة، يجب إعادة تنظيم المجلس الأعلى للقضاء لتكون الرئاسة الفعلية فيه للملك، ينوب عنه الرئيس الأول للمجلس الأعلى، مع زيادة عدد القضاة المنتخبين، لأن العدد 6 الحالي لا يتلاءم مع العدد الإجمالي المتزايد للقضاة بالمغرب. وبهذا يصبح المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة ذات استقلال مالي وسياسي عن باقي السلط بموجب الدستور، ويقع النص على كل ذلك في باب يتعلق ب«السلطة القضائية»، يحدد خطوطها العامة، على أن يتولى تفصيلها القانون الأساسي لرجال القضاء الذي يجب كذلك تغييره ليتلاءم مع الدستور المرتقب. ثانيا: رفع أجور القضاة لا يمكن الحديث عن إصلاح القضاء وبناء استقلاله دون إصلاح الوضعية المادية للقضاة، فلا يجادل أحد في أن أجرة 8000 درهم لا يمكنها أن تضمن للقاضي حياة في مستوى الحد الأدنى للعيش الكريم، ولا يمكنها أن تحميه ضد سماسرة المال في مختلف القطاعات التي لها علاقة بالأحكام القضائية، حيث لم يعد الوضع يحتمل مزيدا من المماطلة التي كان الجهاز التنفيذي في هذا الخصوص يلتف بها على الدعوات والنيات الطيبة التي تريد معالجة هذا الملف بجدية، فإعلان المرحوم الحسن الثاني عن ضرورة إصلاح أجور القضاة صدر سنة 1995 ولم ينفذ إلا سنة 1998، نتيجة مماطلة الحكومة آنذاك، وقد مضى اليوم على الخطاب الملكي ل20 غشت 2009 ما يناهز السنتين، وكلما فتح النقاش فيه ذكّرت وصايا والي بنك المغرب ووزير المالية بالتقشف، وكأن أجور القضاة ترف تدفعه الدولة لمن لا يستحقه. وقد فطن الاتحاد الأوربي والبنك الدولي إلى هذه المعضلة، فحذرا وطلبا تقارير، سارعت وزارة العدل إلى إنجازها في الحال، فملأتها بتدشين محاكم جديدة، وصفقات من أجهزة الكمبيوتر بأضعاف ثمنها الحقيقي، ودلائل ملونة من الورق الرفيع عن أمور تسخر من عقول المواطنين الذين يعرفون محتواها، وإذا لم يعرفوه فمؤازرة المحامي باتت في المغرب إلزامية في جميع القضايا قانونيا وواقعيا، كما تم ملء الأوراق بالخطط والكلمات إلا ما يتعلق برفع أجور القضاة، فهو مسكوت عنه عمدا، وكانت النتيجة أن النية غير جدية في الإصلاح وما يتم القيام به لا يتجاوز الشكل دون الجوهر، لأن ما يهم المسؤولين هو أن يقع تصوير الوزير أو الكاتب العام وهو يوزع أجهزة الكمبيوتر أو يدشن بنايات صماء بالملايير... أو يتكلم عن إصلاح القضاء الذي لا يعرف أحد من أين يبدأ وما هي مراحله وخطواته. والنتيجة الكبرى أن المسؤول الحقيقي عن إنجاح كل ما يتعلق بالقضاء هو القاضي نفسه، لذلك فإن الإصلاح الحقيقي يبدأ من رفع أجور القضاة وفق ما نادى به الاتحاد الأوربي والبنك الدولي، وقوانين السماوات والأرض، رفعا ملائما وجديا وليس بألفين أو ثلاثة آلاف درهم، كما يلوح بذلك أصحاب اللغة الخشبية، فأي قارئ بسيط لمبادئ الاقتصاد سيقول إن زياد أجور 4000 قاض، لن تخرق ميزانية دولة تنهب يوميا بالملايين. ثالثا: ضرورة توافر هيئات تمثل رأي القضاة يتعذر الكلام عن استقلال القضاء دون توافر هيئات تلم شمل أهل مهنته، وتوحد رؤاهم وتدافع عن مطالبهم، وتشكل جهازا ينطق باسمهم في ما يجب أن يقال فيه كلام واحد. فمن القضاة باحثون ودكاترة وأساتذة جامعيون، ومنهم من له اهتمامات أدبية أو فنية أو رياضية، وهمهم لا يختلف عن هم المواطن المغربي الذي يريد أن يرى بلده في الأعالي، لكن كل هذه الطاقات تضيع وسط ضجيج كاذب يطلقه الجهاز التنفيذي، لتصويرهم أناسا آليين يلبسون بذلا خضراء لجمع المال الحرام، وهذا لا ينطبق إلا على القضاة أقرباء هذا الجهاز التنفيذي الذين يحكمون وفق إملاء هواتفه، أما أغلبية القضاة فهم أول من يريد الإصلاح، ولو فتح لهم باب إنشاء ناد أو هيئة تمثلهم لكانت آراؤهم مادة تغني النقاش، لأن السادة المحامين والأساتذة الجامعيين ومختلف الحقوقيين، رغم نواياهم الطيبة، لا يعرفون عن مشاكل القضاء إلا ما يرى خارج المحاكم، أما الحقيقة فتقبع داخلها والحرب التي يخوضها القضاة المهتمون بالإصلاح هي حرب مريرة لا تتصور، حيث تبدأ من المداولات، إلى الصراع مع بعض المسؤولين بالمحاكم وعبث بعض العناصر التي لا تؤمن أصلا بالإصلاح، إلى ضغط وزارة العدل بسيف النقل والانتداب لكل قاض يغامر بالانخراط في عدوى النزاع مع جيوب الفساد، ودليل ذلك أن المفتشين عندما يأتون إلى المحاكم يستمعون إلى السماسرة وأعداء القاضي النزيه الذي يكتشف فجأة أنه نقل إلى مدينة نائية، وعندما يستفسر عن الأمر يأتيه جواب لطيف: «خفنا عليك فأبعدناك عن المشاكل»، دون فحص ما إذا كان له أبناء يدرسون أو زوجة تعمل أو كلية يتابع بها دراسته أو يدرس فيها.. والنتيجة أرقام تسجلها الوزارة في لوحة إصلاح القضاء، مستغلة جهل الناس بالوضع الحقيقي للمشاكل. قد يشكك البعض في هذا الرأي، لكننا نطرح سؤالا من السهل الوصول إلى جوابه لمن أراد: لماذا عمد وزير العدل إلى تشتيت قضاة جهة الدارالبيضاء دون غيرهم؟ أليس انتقاما لملفات خسرها معهم عندما كان يترافع أمامهم؟ إذا كان الجواب بالنفي، فلماذا لم يكن مصباحه عاما ليراقب كل محاكم المملكة؟ وإذا وقع الحرص على مزيد من التشكيك في ما نقوله، فلماذا لم يسلك في نقلهم سبيل القانون دون ابتزاز أعضاء المجلس الأعلى للقضاء الذي انتهى بعزل عضوين لأسباب ظاهرية تتمثل في تسريب معلومات، مع أنها تخفي وراءها أسبابا أخرى حقيقية، لأن المعلومات تسرب في كل الإدارات منذ زمن؟ ولماذا ألغيت بعض تلك الانتقالات فجأة بعد أن علم بها مسؤولو محاكم الجهات التي كانت تنتظرهم، وذلك بقدرة قادر، حين طرق بعض المحامين أعتاب صديقهم الوزير للشفاعة. والخلاصة أن الإصلاح ينادى به، والكل معه، لكن لا يجب أن يقتصر على أكباش الفداء الذين لا تبكي عليهم سماء ولا أرض، خاصة وأن ودادية القضاة يتحكم فيها شيوخهم ومسؤولوهم ولا تمثلهم في شيء أصلا، بدليل أنه ليس لها نشاط أو مجلة أو دورية تعرض أهدافها ومطالب قضاتها، وكذا المجلس الأعلى للقضاء الذي يعتبر هيئة تقنية للترقية والنقل والتأديب، وجمعية الأعمال الاجتماعية التي حذفها القضاة من عقولهم، فكلها مؤسسات لا يمكن أن تنهض بتمثيل القضاة وإظهار مناقشاتهم القانونية المتعلقة بمهنة القضاء ووضعها وطرق حل مشاكلها، باعتبارها مهنة لا تختلف من حيث الاحتياجات عن باقي مهن الأرض، لأن القضاة بشر كسائر الناس، فيهم الصالح وغيره، ويحتاجون إلى إيصال صوت مقترحاتهم إلى فئات المجتمع المختلفة وفاعليه المتعددين، لهذا فإن غياب هيئة أو ناد يقوم بكل ذلك يبقي على القاضي ممنوعا من إبداء رأيه في المؤسسة التي ينتمي إليها، مع أنه يبت على وجه الفصل في قضايا كبرى يوميا، تبدأ بحريات الناس وتنتهي بأموالهم، وبهذا المنع تفرض عليه العزلة عن المجتمع لمصلحة الجهاز التنفيذي الذي يستغل الطرفين معا، ويصنع بينهما عداء مزيفا، فلا يبقى للقضاة إلا أن يعزوا أنفسهم بمثل ما قالته ملائكة الإنجيل لرعاة آرام: المجد لله في أعالي وزارة العدل، وعلى قضاة الأرض السلام. جهاد عبد السلام