مرة أخرى، يطل وزير العدل على إحدى محاكم المملكة واسعة الأطراف، متعددة الرؤى والأهداف، استمرارا في مسيرة إصلاح البنى والجدران وإهمال العنصر البشري. وكان الدور هذه المرة على محكمة الاستئناف بالرشيدية، لتدشين ما يسمى ببرنامج التحديث، حيث وقف قضاة هذه المحكمة وأطرها، يوم الاثنين الماضي، لاستقبال وزير العدل الذي باتت إدارته في قلب مشروع الإصلاح الذي قد يأتي وقد لا يأتي، يحفه الكاتب العام والمفتش العام وكثير من الشخصيات العامة، فكان الاستقبال من أوله لوحة تطرح حول هذا المشروع أسئلة كثيرة على رأسها: كيف يستطيع هذا الوزير الشيخ، الذي قضى فصول عمره الأربعة، أن يكون هو مدشن برنامج التحديث؟ وكيف يستطيع هؤلاء الشيوخ الذين جاؤوا معه أن يفهموا معنى الإصلاح للشروع في تنفيذه، وقد بلغوا في الوزارة من العمر عتيا، ثم استيقظوا فجأة وجاؤوا ليصلحوا ما هم مساهمون في إفساده؟ لعل أحسن التعاريف التي اتفق عليها المنصفون لبيان وصف التخلف هو أن تقول أي شيء وتصف نفسك بما شئت من الأوصاف، دون أن يكون لك برنامج أو مخطط لتنفذ شيئا أو تكون مسؤولا عن شيء أمام جموع من الناس تدعى بالمواطنين، وهذا هو ما ينطبق اليوم على ما يسمى بإصلاح القضاء، فقد قيل حوله الكثير وخصصت له ميزانيات فأصبح ثقافة، لكنها ثقافة على الورق، ولا يمكنها أن تنزل إلى الواقع إلا إذا حددت: ماذا تريد، ومن أين تبدأ، وإلى أين تسير، ومن هم المسؤولون عن تنفيذها، ومن يراقبهم. وليست هذه شروطا للتعجيز، بل هي الأدلة الوحيدة عند العقلاء على صدق النوايا وإخلاص العزائم. فمثلا.. كيف يحمل وزير العدل لواء الإصلاح وهو الذي اجتمع، عند وصوله إلى محكمة الاستئناف هذه، بكل الفئات، من محامين وموظفين..، إلا القضاة، فقد كان حتى مجرد السلام عليهم ثقيلا عليه، وتعمد ألا يجتمع أو يجلس معهم ولو من باب المجاملة؟ ومثلا.. كيف يحمل لواء الإصلاح كاتب عام خاطب بالأمس فوجا قضائيا قبيل تخرجه، وهو الفوج 34، قائلا: «يمكن للقاضي أن يأكل العدس عوض أن يطالب برفع أجرته... ما العيب في ذلك؟». ومثلا.. كيف يحمل لواء الإصلاح وقد خاطب منتدبين قضائيين في وزارته أصبحوا قضاة ففضحوه قائلا: «لماذا يطالب هؤلاء القضاة برفع أجورهم؟... لماذا لا يقسمون 8000 درهم التي يتقاضونها على قروض بنكية: 3000 درهم لشراء سيارة، ومثلها لشراء سكن، ليبقى مثلها لشراء العدس.. وما الذي يقومون به أصلا ليطالبوا برفع أجورهم؟». صدق السيد الكاتب العام، فما يقوم به القضاة الشباب، اليوم، يختلف عما قام به هو بالأمس عندما كان قاضيا ممارسا، فليس منهم من يرضى مثله أن يرفع الجلسة أزيد من عشر مرات لسماع تعليمات هاتفية في قضية نبير الأموي عند مطلع التسعينيات ليأخذ، بعد القضية مباشرة، طريقه إلى الوزارة. لن يرضى أحد منهم بمثل ذلك، لهذا يطالبون بالحل المشروع، وهو الزيادة في أجورهم من خزينة الدولة، لا من جيوب المواطنين كما يريد شيوخ القضاة في وزارة العدل ومن والاهم في المالية. ونظرا إلى ضيق المكان، نكتفي بهذه الأمثلة ونرى، كما يرى أغلب الزملاء القضاة، أن إصلاح القضاء يبدأ بثلاث نقط أساسية يستحيل الكلام عنه دون تناولها، وهي: تغيير الأشخاص والأجهزة بسن نصوص تشريعية تؤكد استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، ورفع أجور القضاة لتتوافر شروط محاسبتهم، ثم منحهم حرية الرأي المشروعة في هيئة تمثلهم، فذلك ما نتناوله تباعا. أولا: بناء استقلال القضاء يبدأ بتغيير المؤسسات والأشخاص يعني الإصلاح في الثقافة الأوربية إعادة التشكيل reforme، بمعنى أنه يهدف إلى إعادة البناء من جديد، أو ما يتلخص في فكرة «إعادة الصورة»، وهو مفهوم متجذر في الفكر اليوناني، شرحه المسلمون، خاصة منهم ابن رشد، قبل أن يترجمه الأوربيون ويصوغوا به قواعد الدولة الحديثة وطرق إصلاحها المتجدد باستمرار، فقد رأى أرسطو أن كل الموجودات المحيطة بنا تتشكل من صورة ومادة، والمادة مطواعة لتتشكل منها مختلف الصور التي تظهر حولنا، فالخشب مادة يمكن أن تأخذ صورة باب أو كرسي أو مكتب، والحجر مادة يمكن أن تأخذ صورة تمثال أو حائط، وهكذا فالمادة تخضع دائما للتشكيل وإعادة التشكيل، ووظيفتها أن تكون هي الوسيلة التي تتشكل منها الصور الجديدة. وعندما يطبق الغرب هذا المفهوم في الإصلاح السياسي، تكون المادة هي الأفراد، أما الصورة فهي الإدارات التي تكون في مجموعها الدولة، لذلك فالإصلاح، بمفهوم إعادة التشكيل، يعني ببساطة تغيير إدارات الدولة وحكومتها باستخدام المادة التي هي الأفراد، فيقع ما يسمى بتداول السلطة الذي يخضع سير المرافق العامة لهذه العملية باستمرار، ويستمر التجديد مواكبا لتطور الأجيال والعقليات. والخلاصة أن الإصلاح في أوربا (reforme) يتخذ دائما مفهوم إعادة البناء من جديد، لأنه يفرض التغيير المستمر للأشخاص الذين يسيرون الشأن العام، فهم مجرد مادة يتوافر منها الكثير بين أفراد المجتمع، ويمكن اللجوء إليها دائما لإعادة تشكيل صورة الدولة. ومن الغريب أننا، عندما نعود إلى القاموس العربي، نجد أن الإصلاح هو ضد الإفساد، وعندما نسأل: ما هو الإفساد؟ نجد أنه ضد الإصلاح، وبذلك أصبح الإصلاح يعني محو العيوب التي أدى إليها الفساد، فهو يرادف كلمة réparation في الثقافة الغربية، وهذه الكلمة لا تعني الإصلاح بل تعني مجرد الترميم، وهو ما نقوم به عندما ينكسر باب منزلنا أو تتعطل سيارتنا، فنحن لا نغيرهما، وبالرغم من ذلك نقول إننا نصلحهما، والحقيقة أننا نقصد ترميمهما، لأننا قد نغير فيهما بعض الأجزاء البسيطة، بينما تبقى صورتاهما على حالهما. وإذا تأملنا آيات القرآن، نجد أن الإصلاح فيها ورد بصيغة لا تختلف عن المفهوم الغربي، حيث نقرأ: «إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم» (البقرة 160)، أي أن الذين تابوا وغيروا أعمالهم وبينوا ذلك بالدليل، فإن الله يقبل توبتهم، كما نقرأ: «وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما» (الحجرات 9) والبين هو الفراق الشاسع، وإصلاحه يكون بتغييره إلى ود وسلام، وهو نفس المعنى الذي نجده كذلك في قوله تعالى: «فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم» (الأنفال 1)، أي غيروا افتراقكم إلى اتفاق يمهد لانتصاركم. ومثل هذه الآيات كثير في القرآن، لكنها لم تمنع اختلاف مفهوم الإصلاح في الثقافتين: الغربية والعربية، فما أساس هذا الاختلاف؟ الحقيقة أن مفهومنا للإصلاح يجد أساسه في الظلم السياسي الذي كرس حصر السلطة بالأسرة والقبيلة والدولة في رجل واحد، وبحث له عن مثقفين أفهموا الجميع أن هناك طينة من الناس خلقت للتسيير والقيادة، وطينة أخرى خلقت لتكون مادة لهذا التسيير، لذلك كان للسياسة مفهوم مشتق من تحكم الإنسان في الحيوان، حيث نقول: ساس الرجل الحصان، أي قاده، ثم نقول: ساس الحاكم الناس، أي قادهم، وكلاهما لا يسوس إلا لمصلحته، فكما يسوس الرجل الحصان ليقوده إلى حيث يريد، وحتى إذا ساسه ليرد الماء، فإنما يفعل ذلك للحفاظ على حياته ودوام امتطائه، كذلك يسوس المسؤول السياسي الناس إلى حيث يريد هو، لا حيث يريدون هم، لأنه الراكب الفذ الذي يمتلك الحنكة والواقعية والنضج، وهو الذي يعرف مصالح الناس أكثر منهم، إنه ببساطة «قائد بالفطرة»، وأبعد ما يمكن أن يتم التفكير فيه هو ترميم أعماله إن اقترح هو ذلك، أما تغييره بشخص آخر فهذا ممنوع، ولا يتكلم فيه إلا أحمق أو قليل حياء. يتبع...