تبث القناة الثانية، الفرنسية طبعا، هذه الأيام سلسلة عنوانها «أرض الضوء» تدور أحداثها خلال فترة الثلاثينات في الجنوب الفرنسي والمغربي. الذين تابعوا الحلقات الأولى لاحظوا بدون شك أن المخرج الفرنسي لم يتعب نفسه كثيرا في إعادة تشكيل الديكور لكي يصور فيه أحداث سلسلته التي تدور خلال خضوع المغرب للحماية الفرنسية. ببساطة لأن الديكور لازال على حاله في مناطق الجنوب التي لم تصلها بعد لا أنابيب الماء الصالح للشرب ولا أسلاك كهرباء بنخضرا. لذلك فمخرج السلسلة وجد الديكور جاهزا، القرى نفسها التي ظلت صامدة منذ بداية القرن، والرجال يلبسون نفس الأزياء البسيطة، والدواب نفسها التي استعملها الأجداد لازالت تستعمل كوسائل نقل في طرق وعرة لم تصلها بعد معاول كريم غلاب. عندما نسمع البعض يربط حصيلة تصوير الأفلام الأجنبية في المغرب، والتي وصلت خلال هذه السنة 850 مليون درهم، بالتقدم الحاصل في إدارة الشأن السينمائي المغربي، نفهم أن هناك من يريد أن ينسب الأشياء إلى غير أصلها. فإذا كانت شركات الإنتاج السينمائية العالمية تفضل القدوم إلى المغرب، فليس لأن المركز السينمائي المغربي يوفر أستوديوهات ومعدات تقنية متطورة للتصوير، ومختبرات رقمية لمعالجة الصور بأحدث المؤثرات الصوتية والمشاهد الخاصة، أو ممثلين عالميين يستطيعون أن ينتزعوا أدوار البطولة إلى جانب نجوم السينما العالمية، ولكن لأن هؤلاء المنتجين والمخرجين يختارون المغرب لتصوير أفلامهم لأنهم ببساطة شديدة يرونه على هيئة أستوديو كبير من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه. فالمغرب بمدنه غير مكتملة البناء، وأحيائه العشوائية وطرقه المحفرة وحركة سيره الفوضوية، يعطي إمكانية تصوير كل السيناريوهات التي يمكن أن تأتي على بال أكثر المخرجين جنونا. إذا كنت تريد تصوير فيلم عن حياة المسيح عليه السلام، فالأمر في غاية السهولة. فنواحي وارزازات تشبه كثيرا أرض المقدس في فترة ظهور المسيح. والناس لازالوا يلبسون الثياب نفسها التي كان يلبسها حواريو المسيح. وهناك قبائل في نواحي وارزازات والراشيدية لازال سكانها يعتبرون الحذاء ترفا لا يناله إلا المحظوظون، والأطفال هناك يتراكضون بين أزقة الدوار المتربة حفاة شبه عراة. أما بالنسبة للكومبارس فالأمر سهل، فعندما ترى الممثلين المغاربة الذين يظهرون في التلفزيون خلال رمضان دفعة واحدة، يتجولون في وسط العاصمة مطلقين لحاهم، فيجب أن تفهم أنهم يستعدون للنزول إلى وارزازات للعب في فيلم حول حياة المسيح. فأتباع سيدنا عيسى كانوا كلهم ملتحين، وممثلونا يبدو أنهم لا يحبون اللحى المستعارة ولذلك يشاركون في هذه الأفلام بلحاهم الأصلية. هكذا بالإضافة إلى توفير تعويضات ساعات العمل يوفرون ثمن شفرات الحلاقة أيضا. والمغرب ليس فقط أستوديو مفتوحا من عند الله يمكن أن تصور فيه حياة الأنبياء والمرسلين جميعا دون أن تكون محتاجا لتحريك شجرة واحدة من مكانها، وإنما يمكن اعتباره هوليود قائمة بذاتها. ولا نستغرب إذا عرفنا أن أغلب الأفلام الأمريكية التي نزلت إلى القاعات مؤخرا حول الحرب في العراق تم تصويرها في المغرب. وفي سلا كان كافيا بالنسبة للمخرج الأمريكي أن يرسم صورة صدام حسين وهو يلوح ببندقيته في الهواء على حائط أحد الأحياء بسيدي موسى، لكي يتحول الحي بقدرة قادر إلى أحد الأحياء الخربة في النجف الأشرف. وقبله وجد مخرج أمريكي آخر أن بعض أحياء سلا تشبه الصومال، فصور فيها جزءا من أحداث فيلمه «سقوط الطائر الأسود». وهذا يذكرنا بتلك النكتة التي تقول أن الرئيس الأمريكي طلب صورا جوية لبعض البلدان الإسلامية ومنها المغرب، وعندما أتوه بالصور الجوية لبعض المدن والقرى المغربية تأملها ثم قال لهم غاضبا : - ياك كلنا ليكم غير صوروها، علاش ضربتوها... وفي مراكش اكترى أحد المخرجين حيا في الداوديات لكي يصور فيه مشهدا في فيلم حول مدينة عراقية تشهد مواجهات بين المقاومة والأمريكيين، بعد أن وجد أن بيوت هذا الحي هي الأكثر شبها بأحياء بغداد المثقوبة بالرصاص والقذائف. وفي الدارالبيضاء، المدينة الأكثر حداثة في المغرب، حول أحد المخرجين الأجانب واجهة فندق لينكولن سابقا إلى أحد أحياء بيروت خلال الحرب الأهلية، فقط بوضعه لدبابة وبضع سيارات محترقة في الشارع. فأصبح شارع محمد الخامس شبيها بشارع القناصة في بيروت خلال الثمانينات. أما في طنجة فقد حول أحد المخرجين بمعية الممثل العالمي «مات ديمون» أسطح بيوت مدينتها القديمة إلى ساحة مواجهة بين البطل ومطارديه الأشرار، دون أن يحتاج إلى بناء ديكور لتصوير المتاهات التي سيضيع عبرها البطل، لأن أزقة طنجة القديمة مصنوعة أصلا على شكل متاهة. وهي المتاهات نفسها التي طارد عبرها أشرار آخرون العميل «جيمس بوند» في نسخه الأولى سنوات السبعينات. ونفس المتاهات أيضا التي صور فيها بيرناردو بيتولوتشي فيلمه «شاي في الصحراء»، الذي كتب قصته بول بولز، والذي لم يغادر بالمناسبة بيته بتلك المتاهات الضيقة بقلب طنجة إلى أن مات. أما في الرباط فقط أخلت وزارة المالية مقرها للمخرج ريدلي سكوت والذي وجد أنها تصلح لتكون في فيلمه «جسد الأكاذيب» من بطولة «ليوناردو دي كابريو»، مقرا لمركز المخابرات الأردنية. بينما اختار المخرج واجهة مقر وكالة المغرب العربي للأنباء لكي يستعيض به عن مشاهد طواف الحجاج المحرمين حول مكة. وطبعا فقد استعان المخرج بأقواس الوكالة للتمويه لكي يعطي الانطباع بأن اللقطة تدور في مكة وليس أمام مقر وكالة الخباشي. وجلس المواطنون على رصيف المقاهي المقابلة للوكالة يتأملون هؤلاء الحجاج بلباس الإحرام الذين يطوفون على الرصيف. من حسن حظ الخباشي مدير الوكالة (وكالة الأنباء وليس وكالة الاستخبارات الأردنية) أن اللقطة لم تكن تتضمن رمي الجمرات. المهم أن المغرب يصلح لتصوير أفلام الحرب الأهلية في الصومال ولبنان، كما يصلح لتصوير الاحتلال العسكري لأفغانستان والعراق، دون أدنى حاجة لتعديل الديكور. وإذا ابتعدت عن شوارع المدن وأحيائها غير مكتملة البناء وذهبت إلى المغرب العميق، فيمكن أن تدخل في العصر الوسيط بسهولة، وتجد مواطنين لازالوا يعيشون عصر اكتشاف العجلة. كما يمكنك أن تكتشف مغاربة لازالوا يعيشون عصر الالتقاط وآخرون يعيشون العصر البرونزي وعصر اكتشاف النار. وإذا توغلت في قرى الأطلس بنواحي تونفيت وأنفكو وبومية فيمكن أن تستنشق نسائم العصر الجوراسي الأول، ولا غرابة في ذلك، فجد الديناصورات عاش في تلك الأعالي قبل ملايين السنين. ومن سوء حظ هذا الديناصور أن عظامه وقعت بين أيدي وزير الطاقة والمعادن السابق بوثعلب (بوطالب بالفرنسية) والذي لم يتردد في جمعها في كيس وإنزالها إلى قبو في الوزارة، بعد أن كان هيكل الديناصور يقف منتصبا في مدخل الوزارة. ولو كان لدينا منتج مقتدر يستطيع أن يرصد ميزانية ضخمة لإنتاج فيلم عالمي حول المغرب اسمه «جورازيك بلاد» على وزن «جورازيك بارك» لسبيلبرغ، لأصبح المغرب مشهورا ليس فقط بإمكانياته الطبيعية المذهلة، ولكن أيضا بديناصوراته الخرافية التي لا تريد أن تنقرض. عندما نتأمل لائحة صادرات المغرب نكتشف أن المغرب يحتل الرتبة الأولى عالميا في تصدير بعض المنتجات التي لا دخل للإنسان فيها. فهي كلها منتجات طبيعية وهبها الله تعالى لهذه البلاد، والإضافة الوحيدة التي يقوم بها المغرب هو أنه يستخرجها ويبيعها خاما في الأسواق العالمية. وعلى رأس هذه المنتجات نجد الفوسفاط والأسماك والغاسول والخروب والحلزون والحمير والصابون البلدي والحرمل والشبة وزيت الهندية وزيت أرغان. وكل هذه المعادن والنباتات والثمار والحيوانات موجودة في أرض المغرب قبل ظهور الإنسان على وجهها. واليوم نرى كيف يريد البعض أن ينسب ارتفاع مداخيل تصوير الأفلام الأجنبية في المغرب إلى التقدم الحاصل في إدارة الشأن السينمائي الوطني. والحال أن ما يجذب المنتجين الأجانب نحو المغرب هو توفره على مدن تصلح لتصوير الفوضى والحروب الأهلية والمواجهات الحربية بأقل التكاليف الممكنة، وتوفره أيضا على بعد مائة كلم من المدن على العصور التاريخية كلها بدءا من العصر الطباشيري والعصر الحجري، وربما حتى العصر الغبري، أي ذلك العصر الذي سبق تكون الحجر ولم يكن سائدا فيه سوى الغبرة. وهذا اجتهاد جيولوجي من عندي طبعا. ثم إن أهم شيء يجذب المنتجين السينمائيين الغربيين نحو المغرب هو أنهم يضمنون في السنة 365 يوما من التصوير كلها شمس. الشيء الذي لا يمكن أن يعثروا عليه في بلدانهم التي عليهم أن يقطعوا فيها التصوير في كل مرة تهطل فيها الأمطار، ولا أحد يعرف متى ستنحسر. ولا شك أنكم تعرفون كم يكلف كل يوم تصوير ضائع من ميزانية فيلم تصل تكلفته إلى ملايين الدولارات.