من المعلوم والمؤكد، تاريخيا وواقعيا، أن صراع المشروعين الحضاريين الإسلامي والغربي، الصليبي الصهيوني العلماني، دخل مرحلة جديدة باندلاع الثورات الشعبية في البلاد العربية. فالغرب كان -وما يزال- مصمما على تسويق مشروعه الحضاري، العلماني ظاهريا، وذي المرجعية الصليبية الصهيونية باطنيا، في طول وعرض البلاد الإسلامية، وتحديدا في بلاد العرب، التي منها خرج الإسلام بمشروع للبشرية قاطبة يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. والغرب إنما يريد الإبقاء على تفوقه في هذا العالم، لهذا حاول عولمة نموذجه الحضاري، بشتى الطرق والوسائل والأساليب الماكرة. وقد حاول الغرب، في فترة احتلاله معظم بلاد الإسلام خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، طمس معالم المشروع الحضاري الإسلامي من خلال ما عُرِف بالغزو الثقافي، الذي كان يهدف إلى التحايل على المسلمين، لترسخ فكرة تخلفهم وانحطاطهم أمام مشروعه الحضاري في أذهانهم. وقد نجح الغرب في خلق أجيال هجينة من المسلمين، الذين تلقفوا مشروعه الحضاري بانبهار وحاولوا الترويج له بشتى الوسائل، مع الخلط والخبط العشوائي بين ما هو تطور تكنولوجي ومادي وما هو قناعات ثقافية وإيديولوجية لا علاقة لها بالتطور التكنولوجي المادي، ذلك أن التطور التكنولوجي المادي الغربي لا يعزى إلى القناعات الثقافية أو الإيديولوجية الغربية. وقد أكدت هذه الحقيقة التطورات التكنولوجية المادية الأسيوية، التي لا علاقة لها بالثقافة أو الإيديولوجيا الغربية، إلا أن الفئة المستلَبة في بلاد المسلمين، التي شملها الغزو الفكري والثقافي الغربي، ظلت متمسكة، تمسك تعصب، بقناعة مفادها أن الحصول على التفوق التكنولوجي والمادي الغربي يفرض، بالضرورة، الأخذ بالثقافة والإيديولوجيا الغربية. وركز الغرب على استلاب الفئات المثقفة والقيادية التي حلّت محله، بعد فترة احتلال القرنين ال19 وال20. وقد سلط الغرب هذه الفئات على رقاب الشعوب الإسلامية، فتقاسمت الثقافة الغربية مناطق النفوذ الإسلامية في فترة ما سمي الحرب الباردة، وهي حرب داخل البيت الغربي، اتفقت على تغريب العالم ولكنْ بأسلوبين اقتصاديين: رأسمالي واشتراكي شيوعي. ولما كانت الفئات العربية التي آل إليها الأمر بعد فترات الاحتلال الغربي، مستلبة بالمشروع الحضاري الغربي، فإنها انقسمت انقسام الغرب بين الأسلوبين الاقتصاديين في فترة الحرب الباردة، وانتقل الصراع الحضاري الغربي إلى البيت الإسلامي وتفرق المسلمون المستلبون والمتغربون، تفرق الغربيين في أسلوبيهما الاقتصاديين، وأخذ صراع الحرب الباردة شكل الحرب الساخنة في بلاد المسلمين في ما بينهم بتحريض وتمويل وقيادة غربية. وهكذا نشأت في بلاد الإسلام وفي بلاد العرب، ومن ضمنها ما يسمى الأنظمة الموالية للنظام الرأسمالي والأنظمة الموالية للنظام الاشتراكي الشيوعي. وبعد انتهاء صراع البيت الغربي إلى نهاية ما يسمى الحرب الباردة، انصرف الشق الرأسمالي للغرب لمحاربة المشروع الحضاري الإسلامي، مواصلا الحرب التي كانت دائما موجودة ضد الإسلام وستبقى كذلك. ومن المكر الغربي الرأسمالي بالإسلام وأهله أنه، في أوج حربه الباردة، كان يُسخّر الإسلام لتصفية حسابه مع غريمه الاشتراكي الشيوعي، الذي يشترك معه في الحقد الأسود على الإسلام. ولم يكن أمام المسلمين، وهم يواجهون عدوان هذا الغريم الغربي أو ذاك بديل عن الاعتماد على تكنولوجيته لخوض الصراع من أجل البقاء، كما كان حالهم في أفغانستان في زمن الغزو السوفياتي. ومما يؤكد خبث ومكر الغرب الرأسمالي أن الإسلام، الذي وظفه لتصفية الحساب مع غريمه الاشتراكي الشيوعي، اتخذه بعد ذلك عدوا، كما هو الحال اليوم في أفغانستان، مما يعني أن الغرب الرأسمالي لم ينس في يوم من الأيام أن عدوه الأول هو الإسلام، حتى وإن ركبه في بعض الظروف لتحقيق بعض المصالح المستعجلة. وهكذا يستنفد الغرب الرأسمالي كل جهود الإسلام، قبل أن يعيد الكَرّة لمحاربته. وقد حاول الغرب الرأسمالي، بعد انهيار معسكر غريمه الاشتراكي الشيوعي، المحافظة على مواقع نفوذه في العالم الإسلامي، وتحديدا في المنطقة العربية، بل حاول السيطرة على مناطق نفوذ غريمه أيضا، الواقعة في المنطقة العربية، بشتى الطرق والأساليب، بما فيها غزو بعض هذه المناطق، كما وقع في العراق. ومن أساليب ركوب واستغلال النظام الرأسمالي الغربي للإسلام الطريقة الماكرة لإشعال الحروب بين المسلمين، الذين تفرقوا شيعا، كما وقع بين إيران والعراق في حربهما الاستنزافية، التي انتهت بإضعاف العراق في المنطقة العربية وباحتلاله. وما زال الغرب الرأسمالي يراهن على «بلادة» المسلمين، المنشغلين بالفرقة الشيعية والطائفية، من أجل تسليط بأس بعضهم على بعض، لتوفير الجهد على غزوه لهم. ونظرا إلى بلادة المسلمين وتوجس بعضهم، خوفا من غزو بعض، فإنهم يرتمون بين «أحضان» الغرب الرأسمالي الماكر، دون تفكير أو تريث من أجل الاستقواء به على بعضهم البعض... ولمّا ضاقت الشعوب العربية من المشروع الحضاري الغربي الرأسمالي، الذي تكشَّف خطره المحدق بالأمة الإسلامية، ثارت ضد أنظمتها المسوقة لهذا المشروع الخبيث، فأطاحت ببعض هذه الأنظمة، وهو ما أقلق الغرب الرأسمالي، الذي سارع إلى قطع الطريق على كل ما له علاقة بالإسلام، من أجل التمكين لمشروعه الحضاري. وقد انكشفت اللعبة الماكرة للغرب، سواء من خلال ما حدث في تونس أو في مصر، حيث ما زالت الأمور لم تنكشف بعدُ وما زال السؤال المطوح هو: هل نجح الشعبان التونسي والمصري في تقرير مصيرهما أم ما زال المصير بزمام الغرب الرأسمالي المتورط إلى «قنة رأسه» في الشأن العربي من محيط العرب إلى خليجهم؟ وتفاديا لِما وقع في تونس ومصر، سارع الغرب إلى الالتفاف حول الثورتين اليمنية والليبية وحاول -بطريقته الماكرة- التظاهر بالوقوف إلى جانب الشعبين اليمني والليبي، إلا أن الواقع أثبت أنه متمسك بالنظامين الفاسدين، خوفا من إسلام الثورات العربية، خصوصا وقد وقف وراءها دعاة يساندونها وهم محل شك وحتى اتهام بالنسبة إلى الغرب، كما هو حال اليمن، على سبيل المثال، لا الحصر. وقد كشف موقف الغرب الرأسمالي الحالي في ليبيا لعبته القذرة، حيث تدارك، في آخر لحظة، إنقاذ النظام الليبي الفاسد الذي تعهَّد بحماية أمن إسرائيل كثمن لبقائه وفتكه بالشعب الليبي الذي أعلنها ثورة إسلامية مقلقة للغرب ولإسرائيل. وقد تلكأ الغرب في مساعدة الثورة الليبية وصار آخر خطابه أن الحظر الجوي على سلاح الطيران العسكري لعصابات النظام الليبي هو لحماية الشعب وليس لمساندة ما أصبح يسميه حركة تمرد ليبية، بعدما كانت عبارة عن دفاع الشعب عن نفسه من خلال أبنائه الثوار. وقد «اشتمّ» الغرب الرأسمالي «رائحة» الإسلام في ثوار ليبيا، عن طريق «كلاب» مخابراته، فصار يقصفهم ويدعي الخطأ في القصف ولا يقصف عصابات المرتزقة، الذين يستعملهم النظام المفلس، بدعوى أنهم يخالطون الشعب ويصعب، بسبب ذلك، قصفهم وما ذلك إلا تمويه على مساندة النظام الفاسد، الذي كان دائما يسدي خدمات، للغرب والذي قرر أن يحمي أمن وسلام إسرائيل، وهو ما يعني استئصال كل ما له علاقة بالإسلام في ليبيا، حتى لا تنطلق منها فكرة القضاء على إسرائيل، وهي فكرة إسلامية تحارَب من طرف الغرب، حيثما وُجِدت في بلاد العرب أو العجم المسلمين. وليس من مصلحة الغرب أن يسقط النظام اليمني ولا النظام الليبي ولا أي نظام يمكن استخدامه لمنع فكرة المشروع الحضاري الإسلامي، فكل نظام في الساحة الإسلامية يعلن الحرب على ما له علاقة بالإسلام سيلقى الدعم من الغرب، وكل ثورة سترفع شعار الإسلام، سيواجهها الغرب، بشتى الوسائل. وقد بدت البغضاء من أفواه ساسة الغرب وما تخفي صدروهم أكبر، والله المستعان، على مكرهم، وهو هازم الأحزاب وهو ناصر المؤمنين الصادقين الصابرين، الذين يعولون عليه ولا يعولون على قوة عدو يتربص بهم الدوائر. وقد وعد الله، عز وجل، بميراث المشروع الحضاري الإسلامي للأرض، والله لا يخلف الميعاد.