بعد متابعة التطورات الدموية للأحداث في ليبيا واليمن وإصرار زعيمي البلدين على التشبث بالحكم حتى لو كان الثمن سقوط المئات بل الآلاف من الضحايا، نكتشف كم كان الرئيسان التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك «رحيمين» بشعبيهما عندما قررا الانسحاب من السلطة بأقل قدر ممكن من الخسائر البشرية وأكبر قدر ممكن من المليارات. من المؤكد أنهما كانا يودان البقاء لأطول فترة ممكنة، ولهذا مارسا كل أنواع المناورة والتضليل، مثل الحواة تماما، سواء من حيث طرد الوزراء ذوي السمعة السيئة، وخاصة وزراء الداخلية والإعلام، أو حتى حل الوزارة برمتها، والتقدم بتعهدات بعدم الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ولكن إصرار المتظاهرين الثائرين في الميادين الرئيسية للبلدين أجبرهما على الاستسلام ورفع الرايات البيضاء والهروب إلى أقرب ملاذ آمن. في الحالة الليبية، لا يتورع العقيد معمر القذافي عن قصف شعبه بالدبابات والطائرات، ويتصرف كما لو أنه معبود الجماهير، ويرفض أن يصدق أن الغالبية العظمى من أبناء شعبه لا تريده، بعد أن حول البلاد إلى خرابة، فقد كان كل ما يهمه هو الاهتمام بشخصه وصورته وزعامته العالمية المزورة، أما الشعب الليبي فقد كان آخر اهتماماته واهتمام نسله الذي أكل الأخضر واليابس. أما في الحالة اليمنية، فالوضع لا يقل سوءا، فالرئيس علي عبد الله صالح اختصر البلاد كلها في مجمع قصره الجمهوري، واعتقد أنه باستقدامه داعية، مثل عمرو خالد، ليؤم بالمصلين في الجامع الجمهوري ويتحدث عن الوسطية والاعتدال في خطبة الجمعة، يمكن أن ينزع فتيل الثورة من عزائم اليمنيين، وكم كان مخطئا في تصوراته البسيطة هذه، وكرر الخطأ بطريقة أفدح عندما أمر قناصته بذبح المعتصمين في مسجد ميدان التغيير أثناء صلاة الجمعة دون شفقة أو رحمة. العقيد علي عبد الله صالح اعتقد أنه، باتباعه سنّة عقيد ليبيا في قتل المتظاهرين وعدم مغادرة السلطة بطريقة أقل دموية مثل نظيريه التونسي والمصري، يمكن أن يوقف عجلة تاريخ المد الثوري الحقيقي القادم من رحم المعاناة الشعبية، ولكن اجتهاده هذا جاء في غير محله تماما، فالشعب اليمني، مثله مثل كل الشعوب الثائرة الأخرى، لا يمكن أن يقف في منتصف الطريق، وسيواصل ثورته حتى تحقيق جميع أهدافه دون أي نقصان، أي رحيل النظام ورأسه. رسالتان بليغتان أرسلتا يوم أمس (يقصد الاثنين) إلى الزعيمين الليبي واليمني، الأولى وجهتها الدول الغربية التي تدخلت في الملف الليبي لخدمة مصالحها تحت غطاء حماية المدنيين، وتمثلت في قصف مقر العقيد الليبي في قاعدة باب العزيزية، لتقول له إنه مستهدف شخصيا بالاغتيال، وللشعب الليبي في طرابلس إن عليكم أن تتحركوا مثل أشقائكم في بنغازي، فالرجل الذي يلتف بعضكم حوله، أو مضطرون إلى الصمت تجاهه خوفا، ها هو يغادر العاصمة بحثا عن مكان سري آمن، يقود معركته النهائية في البقاء في خندق تحت الأرض بعد أن أغلقت كل الأبواب في وجهه. أما الرسالة الأهم التي وصلت إلى العقيد اليمني فكانت مزدوجة، شقها الأول والأبلغ جاء من خلال انشقاق اللواء علي محسن الأحمر، قائد المنطقة الشمالية، والأخ غير الشقيق للرئيس اليمني، وانضمامه إلى الثوار مع عدد كبير من الضباط الكبار والسفراء في مختلف أنحاء العالم. أما الشق الثاني الذي لا يقل أهمية فيتجسد في استقالة الشيخ صادق عبد الله الأحمر شيخ قبيلة حاشد (قبيلة الرئيس) من الحزب الحاكم، وشقيقه حميد الأحمر من منصبه كنائب لرئيس البرلمان، الأمر الذي يعني أن القبيلة الأضخم في اليمن سحبت غطاءها القبلي عن النظام، مما يعني عمليا أن فرص بقائه في السلطة باتت محدودة، إن لم تكن معدومة. الرئيس علي عبد الله رجل داهية، ولا أشك في ذلك أبدا، ليس لأنه استطاع البقاء لأكثر من ثلاثين عاما في بلد قال عنه الشاعر اليمني الراحل عبد الله البردوني «ركوب الليث ولا حكم اليمن»، وإنما لأنه نجح في تحييد جميع خصومه والنجاة من أزمات خطيرة، أبرزها حرب الانفصال عام 1994، ناهيك عن العديد من محاولات الانقلاب أو الاغتيال، ولكن هذا الدهاء خانه عندما فشل في قراءة الثورة الشعبية في بلاده قراءة صحيحة. أعترف بأنني، ولأكثر من عقدين، كنت من المعجبين بقدرته على البقاء ولعب أوراقه الداخلية والإقليمية بذكاء، خاصة مع السعودية، جارته الشمالية القوية التي لا تكن الكثير من الود لليمن وتعتبره مصدر خطر على أمنها واستقرارها، وأذكر أنه قال لي -في العيد العاشر للوحدة اليمنية عندما كان يقود سيارته في خارج صنعاء وأنا إلى جانبه، حيث مررنا بقرية الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي إن لم تخنِّي الذاكرة- إنه أخذ الحكم بهذا الخنجر (مشيرا إلى وسطه) ولن يغادره إلا بالخنجر، أي مقتولا. لا أتمنى هذه النهاية الدموية للرئيس علي عبد الله صالح، فالنصف المملوء من كأسه يقول إنه حقق الوحدة والكثير من الاستقرار لليمن، الذي لم يعرف الاستقرار مطلقا طوال تاريخه الحافل بالحروب والمؤامرات والصراعات القبلية والإقليمية، بل أتمنى له خروجا آمنا إلى جدة، غرب المملكة العربية السعودية، ليقضي ما تبقى من حياته، أسوة بالكثير من معارضيه، مثل أبو بكر العطاس وعلي سالم البيض وأحمد النعمان وعبد الله الأصنج والإمام البدر، والقائمة تطول. العقيد علي عبد الله صالح يختلف عن نظيره الليبي من حيث كونه يستطيع التنعم بتقاعده كرئيس مخلوع في أي مكان يختاره دون مطاردات الأنتربول كمجرم حرب، مطلوب للمثول أمام محكمة جرائم الحرب الدولية في لاهاي أسوة بالرئيس الصربي سلوبودان ميلوسفيتش، أو العقيد معمر القذافي إذا بقي (أي القذافي) على قيد الحياة، فلديه من الملايين ما يكفيه حتما، وإذا كان الحال غير ذلك فإن أصدقاءه السعوديين لن يبخلوا عليه، وفي أسوأ الحالات يمكنه الاقتراض من صديقيه المخلوعين الآخرين، التونسي زين العابدين بن علي المقيم في جدة أو المصري حسني مبارك في الضفة الأخرى من البحر الأحمر (شرم الشيخ). نريد، ونتضرع إلى الله أن تزول هاتان العقبتان (القذافي وعلي صالح) من طريق الثورات العربية حتى تواصل امتداداتها للإطاحة بمن تبقى من الطغاة، وبما يؤدي إلى بزوغ فجر ديمقراطي وطني عربي جديد، يغير وجه المنطقة ويوقف مسلسل الهوان والإذلال والهزائم الذي تعيشه منذ ستين عاما على الأقل. الشعوب العربية تستحق زعامات جديدة شابة تنهض بها وتكرس حكم القانون والعدالة الاجتماعية والمؤسسات المنتخبة، فقد أهينت بما فيه اللازم وأكثر، من قبل أنظمتها الديكتاتورية التي قادتها إلى التخلف والفقر والبطالة والحكم القمعي البوليسي، والفساد في الرأس والبطانة معا. طالبنا بالإصلاح في كل الدول العربية، ملكية كانت أو جمهورية دون استثناء، وسنظل، ولكن مطالبنا هذه قوبلت بالمنع والمصادرة، وما زالت، لأن الأنظمة اعتقدت أنها في مأمن من الثورة الشعبية ومحصنة أمام مطارق التغيير. نصيحتنا للعقيدين في اليمن وليبيا بالرحيل، حقنا للدماء ورأفة بشعبي البلدين، قبل أن يجبرا على الخروج بطريقة مهينة أو دموية، فلا مكان لهما في البلاد، ونأمل أن يستمعا إلى هذه النصيحة قبل فوات الأوان. مشكلتنا الوحيدة أننا يمكن أن نتكهن بالمكان الذي يمكن أن يتوجه إليه العقيد صالح، ولكننا من الصعب أن نتكهن بأي ملاذ آمن للزعيم الليبي، ولهذا لن نفاجأ إذا كان خياره القتال حتى الانتقال إلى الدار الآخرة، والله أعلم.