في خضم الحركات الاجتماعية الثورية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط وأمام عمل حكومات المنطقة على تحديد نماذج عملية للإصلاح السياسي والتنمية وتفعيلها، فإن المغرب يعتبر محظوظا لنهجه سياسة عمومية توعوية خلال السنتين الماضيتين حول مخطط اللامركزية الذي ينهجه. فيتعين على المقاربة المغربية الرامية إلى تعزيز الديمقراطية والتنمية -التي ما فتئ الملك محمد السادس يثيرها والتي بادر إلى تفعيلها مباشرة بعد الاحتجاجات التي عبر عنها المواطنون على الصعيد الوطني يوم 20 فبراير- أن تجمع بينهما بشكل لا يتقدم فيه أحدهما دون الآخر. ويعني هذا عمليا مشاركة المواطنين المغاربة على المستوى المحلي في التخطيط الديمقراطي التشاركي وفي تدبير المبادرات التنموية التي من شأنها أن تعود عليهم بالنفع، حيث تتوقف التنمية المستدامة المغربية على المبادلات الديمقراطية وإجماع الأمة، كما يجب تعزيز الديمقراطية من خلال عملية خلق التنمية المستدامة. وتبقى اللامركزية، التي بفضلها تنتقل السلطة التسييرية والكفاءات والقدرات إلى المستويات الجهوية والمحلية، الإطار الذي اختاره المغرب للنهوض بالديمقراطية والتنمية بشكل تآزري وتصاعدي. اعتبارا لهدف اللامركزية الذي أعلن عنه المغرب، فإن ترتيباته التنظيمية تشدد على «المنهجية التشاركية»، حيث ترجع أولوية تطبيق هذه المقاربة الديمقراطية إلى الجماعات المحلية التي تقيم معا تحديات وفرص دمقرطتها، وتقوم بوضع وإعمال مخططات العمل التي تعكس أولوياتها المشتركة، مثل التشغيل والتعليم والصحة والبيئة. فمنذ 2010، بنص الميثاق الجماعي المغربي (يضم المغرب حوالي 1.500 جماعة تشكل أغلب المستويات الإدارية المحلية) على أن تضع الجماعات مخططات تنموية وتعرضها على وزارتي الداخلية والمالية. وبناء على الدراسات التي قام بها البنك الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووكالات التنمية الأممية وعدة وكالات أخرى، أصبح من المتفق عليه اعتبار المنهجية التشاركية أساسا للتنمية المستدامة لأن مشاركة الناس في تحديد المشاريع المُعدة لفائدتهم توفر المحفزات اللازمة للسكان المحليين على المحافظة عليها. لقد عجلت الاحتجاجات في المغرب والثورات الشعبية التي عرفتها الأمم العربية الأخرى بإعمال مخطط اللامركزية المغربي المتوفر سابقا، بما في ذلك عملية تحديد وتجسيد الإصلاحات الديمقراطية الدستورية المتطلبة. وفي نفس الوقت، تعتبر الفرص العظمى لتحقيق الديمقراطية والتنمية التي يوفرها المخطط المغربي للامركزية وإعادة الهيكلة سببا مهما وراء عدم جذب الاحتجاجات، التي عرفتها البلاد، الناسَ بنفس الكيفية التي عرفتها بشكل لا يصدق في أجزاء أخرى من العالم العربي. بالرغم من كونه متطلبا لكي يتم إعماله بشكل فعال، كما سنناقش ذلك، فمن المحتمل أن يكون النموذج المغربي مفيدا لدول أخرى في المنطقة بما أنه يتجاوب مع المطالب الشعبية من أجل التزام المواطنين المباشر بالممارسات الديمقراطية، ويرتبط في نفس الوقت ارتباطا وثيقا بالمفاهيم الإسلامية للشورى (أي المشاركة والاستشارة المتبادلة في الحكم على أساس الحوار بخصوص كل الأمور التي تهم الجماعة ككل ومسؤوليها)، والأمة (جماعة إسلامية عالمية لامركزية، متكاملة ومتنوعة مع ذلك، ترسخ حقوق الإنسان وتحقق العدالة الاجتماعية في إطار سياق سلمي تطوري يعزز التضامن الوطني والتعاون الدولي)، والإجماع (إجماع الأمة). غير أن أحد المتطلبات الأساسية للامركزية اعتمادا على المنهجية التشاركية يبقى تكوين أعداد متزايدة من «المنظمين» أو منصب يسمى أحيانا منشطَ أو محفزَ أو عونَ التبادل أو مستشارا أو عون التوسيع أو عاملا ميدانيا أو وسيط معلومات أو وسيطا أو متدخلا أو القائم بالوساطة أو مخطط-باحث. ومهما تعددت التسميات تبقى المهمة الرئيسة واحدة: العمل على تنسيق اجتماعات التخطيط الجماعي، ورفع الحواجز عن المشاركة، وتشجيع الحوار الجماعي، والسهر على أن تسمع كل الأصوات (نساء وشبابا وشيوخا ومجموعات عرقية ومحرومين ومرضى وعجزة)، ومعالجة وتفسير العوامل الكبرى التي تؤثر على المشاريع المحلية، وفهم حاجيات الفقراء وعلاقات القوة، وتدبير المصالح المتضاربة، وتعزيز الثقة والاعتماد على النفس (للتصدي لروح العجز لدى الناس)، ومن خلال مختلف الشراكات إخبار المستفيدين عن الموارد الحكومية وغيرها التي هي متوفرة بالنسبة إلى أنشطة معينة، وتنمية المهارات التحليلية، وربط جسور التواصل بين الناس والحكومة والمنظمات غير الحكومية والتقنيين والمؤسسات الأكاديمية. المنظمون لا يشغلون مناصب سلطة داخل الجماعات، وهم اختصاصيون في العلاقات بين الناس، كما أن دورهم يعتبر حيويا على الأقل خلال المراحل الأولية لعملية النهوض بالجماعة حتى تتمكن من الاكتفاء الذاتي وحتى يتم نقل تقنيات التنشيط للمستفيدين من المشروع أنفسهم. في المغرب، وبناء على دراستي وملاحظاتي الشخصية، فإن معدل عدد المنشطين مقارنة بمجموع السكان هو 500: 1. تصل كلفة تكوين منشط واحد بشكل تجريبي (ميدانيا داخل جماعة حقيقية) مع توجيه مهني بعد التكوين مبلغ 2000 دولار أو مبلغ 140 مليون دولار لتكوين 70.000 منشط، وهو ما يكفي لإشراك كل قرية وحي حضري مغربي (بما في ذلك 35 مليون شخص) في المنهجية التشاركية في إطار مشاريع التخطيط. وقد تضم مجموعات الناس الذين يخصهم التكوين التشاركي أعضاء المجالس الجماعية والبرلمانيين المنتخبين (الذين يقدمون معلومات عن ممارسة السلطة وعن حملاتهم الانتخابية)، الناشطين في الجمعيات القروية وجمعيات الأحياء، والممثلين المحليين لمؤسسات الخدمة العمومية والمؤسسات غير الحكومية، وحراس الغابات والطلبة الجامعيين والأساتذة والمعلمين (في المناطق القروية تكون هذه الفئة من الشباب على نحو نموذجي)، ومسؤولي الشأن الديني والمتقاعدين والمواطنين المهتمين. فضلا عن ذلك، تقدر كلفة إعمال المشاريع ذات الأولوية (مثلا، الماء الصالح للشرب وزراعة أشجار الفواكه والتعاونيات النسوية ومراكز الشباب) التي من شأنها تحسين الوضعية السوسيواقتصادية والبيئية لساكنة قروية مغربية تقدر ب10.000 نسمة بشكل أساسي في مبلغ مليون دولار، أو ما معدله 100 دولار للفرد الواحد، ذلك أن الكلفة المنخفضة جدا للمشاريع التشاركية مقارنة بعدد المستفيدين مردها استعمال الموارد والخبرة المحلية واعتماد منهجية تنتج سلسلة من المساهمات العينية المهمة في المشاريع والالتزام المحلي بها، وبالتالي يمكن أن يحول مبلغ أربعة ملايير دولار المغرب، من الناحية التنموية، باعتماد المقاربة التشاركية للامركزية. كما تتطلب المقاربة منح صلاحيات جبائية للسلطات المنتخبة على المستوى الإقليمي، وعلى المستوى المحلي وتخلق جدلا بالنسبة إلى حالة المغرب. عندما لا تنقل الضرائب المفروضة والمجباة سابقا من طرف السلطة المركزية إلى السلطات المحلية (كما حصل في البرازيل وساحل العاج وغانا خلال ثمانينيات القرن الماضي)، فإن هذه السلطات تعاني من نقص في الموارد ولا تستطيع دعم التنمية، ومن ثم يطرح التساؤل حول النوايا الحقيقية للسلطة المركزية من وراء اللامركزية، مثل تقليص العجز الوطني. لقد تحقق تقدم صوري نحو التكوين والمشاريع التشاركية بفضل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تعتبر مشروع المغرب الطموح والمتطور الذي أطلقه الملك سنة 2005 والذي يرتكز مفهومه على المقاربة التشاركية التي تعنى مباشرة بالساكنة القروية والحضرية الأكثر تهميشا، حيث قامت المبادرة بتحسيس المواطنين بشكل منتظم حول الشؤون المتعلقة بالتنمية المستدامة، جزئيا على الأقل بفضل الزيارات الملكية المتواصلة لأقطار الوطن دعما لمشاريعها. في الواقع، ساعد الإدماج وإثارة الانتباه إلى أهداف المشاركة في التنمية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على إعداد الأمة نوعا ما للامركزية، وربما ساعدت على تجنيب اللامركزية أن تكون مجرد أداة لنقل السلطة من النخبة الوطنية إلى النخب المحلية. غير أن مستويات مشاركة الجماعة في تخطيط وتدبير مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أقل من مثالية، أو حتى غير ملائمة كما يقر بذلك الملك والمرصد الوطني للتنمية البشرية. ومن المحتمل أن تعزى هذه الحصيلة على نطاق واسع إلى كون مهمة إعمال المبادرة توكل إلى الوزارات الوصية (وزارة الداخلية في الغالب) التي تتبنى طريقة عمل تعتمد التدبير التنازلي. بطبيعة الحال، تتبنى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية طابع السلطة شديدة المركزية التي تتكلف بإعمالها. تحتاج اللامركزية التشاركية في المغرب إلى إصلاح وزارة الداخلية التي تأخذ على عاتقها مسؤولية الأمن الداخلي للأمة، كما هو الحال بالنسبة إلى غالبية بلدان المنطقة. غير أن فكرة أن يعهد إلى هذه الوزارة، التي عادة ما تشكل لدى العموم مصدر خوف وريبة، بالمهمة الأساسية للتنمية البشرية يعتبر في حد ذاته عائقا لبلوغ الهدف، لذلك يتعين نقل مسؤوليات وزارة الداخلية في مجال التنمية إلى وزارات الخدمة الاجتماعية، بما في ذلك وزارة الفلاحة التي تتكلف بالتنمية المندمجة في المناطق القروية ووكالة اللامركزية الجديدة التي من المحتمل أن يتم خلقها والتي يجب عليها أن تلعب أساسا دور جهاز تنسيقي بين مختلف الوزارات والقطاعات والمستويات الإدارية من أجل خلق مبادرات مندمجة، تشبه مبدئيا كيفية عمل وزارة البيئة. كما يتعين التعليق التدريجي للبروتوكولات التي تفرض تبليغ وزارة الداخلية بمواعيد عقد اجتماعات التخطيط الجماعي وأنشطة تفعيل المشاريع. وتقتضي اللامركزية الحقيقية مستوى من النشاط المحلي سيجعل هذا النوع من التقرير على نحو متزايد عبئا إداريا بالنسبة إلى الجماعات المحلية والوزارة، ويبدو غير ضروري تماما على أية حال. غير أن وزارة الداخلية بإمكانها أن تلعب دورا مهما في خلق شراكات مؤسساتية بتوفيرها للعموم عبر شبكة الأنترنيت معلومات تتعلق بالمهمة والجهة وكيفية الاتصال بعشرات الآلاف من الجمعيات المغربية التي لا تهدف إلى الكسب. حتى وإن كانت تقدم نموذجا تجديديا يجمع بين الدمقرطة والتنمية المستدامة، فإن تطبيق السياسة المغربية يجب أن يكون مطلق الجرأة لكي ينجح. من الواضح أن الملكية، بناء على النموذج المغربي، منفتحة للتغيير التحولي لمجموع المجتمع على أن يكون من خلال عملية تنطلق من القاعدة تقودها جماعات محلية لها صلاحيات تنموية وتعتمد على ذاتها، وهي مندمجة في نظام وطني لامركزي ويتم اختيار مسؤوليها المنتخبين بناء على قدرتهم على المساعدة على تحقيق القرارات الإجماعية لناخبيهم والاستجابة لها. الدكتور يوسف بن-مير - متخصص في علم الاجتماع ورئيس مؤسسة الأطلس الكبير