ليس معروفاً لدى أحدٍ، حتى الآن، إن كان المرشح الديمقراطي باراك أوباما هو رئيس الولاياتالمتحدة المقبل بعد أربعة أشهر من اليوم. حتى هو نفسُه لا يعرف ما إذا كانت حظوظُه الفعلية من النجاح تُمَاثِلُ التقديرات الاستطلاعية المرجِّحَةُ له. فإلى أن تدور مَاكِنَةُ الاقتراع في ولايات أمريكا وتنجلي جلبتُها عن صورة التوازن الجديد، أمام أمريكا والعالم ما لا يُعَدُّ ولا يُحْصَى من الاحتمالات، وربّما- أيضاَ- من المفاجآت التي قد تُعيد، إن وقعت، خَلْطَ التوقّعًات والولاءات واتجاهات الرأي داخل المجتمع الأمريكي فتجُبُّ ما قبلها من استطلاعات. في مثل هذا المَعْرض، تتقاطر على المرء أسئلة في غاية المشروعية من وجهة نظر التحليل الاستشرافي، أعني من وجهة نظر التحليل الذي لا يتوقع المستقبلَ على مقتضى محصّلة المعطيات الواقعية المتوفرة لحظة الاستشراف فحسب، بل- أيضاً- في ضوء احتمالات قد تفاجئ التحليل وتُدخِل تعديلاتٍ حاسمةً على فاعلية العناصر والمواد التي يستند إليها ذلك التحليل. من هذه الأسئلة، في الحالة التي نحن فيها، أسئلةٌ ثلاثة: ماذا لو قرَّرت إدارة بوش حسم ملف النزاع الأمريكي-الإيراني على ملفّ إيران النووي حسماً عسكريّاً ولو محدوداً بتدمير منشآت إيران النووية وبما يَصُبُّ رصيد هذا الحسم في مصلحة الجمهوريين، وماذا لو قامت إسرائيل بتلك الضربة العسكرية وردّت إيران بضرب القواعد الأمريكية في العراق؟ ثم ماذا لو تعرَّض الأمن (الداخلي الأمريكي لضربة جديدة في هذه الفترة الانتقالية شبيهة بضربات 11 سبتمبر 2001 أو –حتى- دونها قوة وتأثيرا؟ أسئلة عظيمةً النصيب من الشرعية لأن مثل هذه الاحتمالات لا يقع في نطاق المستحيل إن أخذنا في الحسبان «الأسبابَ النائمة» التي قد تدفع إلى صيرورتها إمكانا ومنها استمرار التوتر الشديد بين أمريكا وإيران، وبين إسرائيل وإيران، واستمرار الحرب الأمريكية على الإرهاب والردّ المعاكس عليها من «القاعدة» وغيرها من الجماعات السلفية المسلَّحة على امتداد العالم. ولمَّا كانت هجمات 11/09/2001 قد أدخلت في نسيج المجتمع الأمريكي هاجس الأمن الداخلي لهوْل نتائجها، ثم أتى غزو العراق واحتلالُه يُفاقِم من معدَّل ذلك الهاجس نتيجة الكلفة البشرية والاقتصادية الفادحة التي تَكَلَّفَهَا المجتمع الأمريكي من حياة أبنائه ومن قُوِته اليومي ورَفَاهِه الاجتماعي، ونتيجة ذيول ذلك الاحتلال ومنها تزايُد العداء لأمريكا وتوسُّع رُقْعة المواجهة معها من أفغانستان إلى العراق...، فقد بات في حكم المؤكد أن الأمن (الداخلي والخارجي: وقد تداخَلاَ كثيراً منذ سبع سنوات حتى كادت تضيع الفروق بينهما) تحوّلَ إلى ناخب كبير في المجتمع والانتخابات حتى لا نقول إنه الناخب الكبير فيها! من يريد دليلاً على ذلك فليتذكّر الانتخابات الرئاسية الأمريكية في خريف العام 2004 التي جدّدت لجورج بوش لولاية ثانية. كان الأعمّ الأغلب من استطلاعات الرأي يميل، آنئذ، إلى ترجيح حظوظ المرشح الديمقراطي جون كيري. وكان ثمة ما يفسِّر لماذا حَصَل ذلك التغيّر الكبير في رأي الناخب الأمريكي لمصلحة الديمقراطيين بعد أن بلغت شعبية بوش- غداة هجمات 11 سبتمبر 2001- حدوداً غيرَ مسبوقة، ومنه غَرَقُ أمريكا وجيشها في وَحْلِ العراق. غير أن إطلالةً إعلامية لزعيم تنظيم «القاعدة» –بعد فترة احتجاب امتدت لعام ونصف قبل ذلك- كانت كافية لإشعال مشاعر الخوف الجماعيّ لدى المجتمع الأمريكي على أمن قوميِّ داخليّ شديد الهشاشة خيِّل للأمريكيين أن إدارة بوش وحدها قادرة على صَوْنِه. هكذا أتى نداءُ الأمن- المنبعِث فجأةً من وراء الخوف من صورة بن لادن الحي وزمن صورته الواثق من نفسه ومن مفرداته التي تَنْضَحُ بالتهديد- يسحب تحفظات الناخب الأمريكي على سياسات بوش إلى خلف كي يعيد للهاجس الأمنيّ مكانَتَهُ في المعركة الانتخابية، وكي يُعيد جورج بوش- بالتَّبِعَةِ- إلى البيت الأبيض. قيل حينها، على سبيل تفسير واقعة الظهور المفاجئ لزعيم تنظيم «القاعدة»، أن الرجل رامَ أمرين من ذلك الظهور: أن يخوض معركةً سياسية داخل أمريكا يكون فيها ناخباً كبيرا أو فاعلاً قادراً على تغيير وجهة التوازنات الانتخابية فيها، أي أيضاً على شن حرب سياسية- نفسية في الداخل الأمريكي تستكمل ما دشنته الحرب الأمنية في 11 سبتمبر وتتغيّا الهدف ذاته: زعزعة استقرار أمريكا واطمئنانها إلى قوتها وإلى تماسكها الذاتي في مواجهة أعدائها؛ ثم دفْع المواطنين الأمريكيين- من طريق الضغط على أعصابهم والنَّقْر على وَتَر هواجسهم الأمنية- إلى التصويت على جورج بوش ثانية بحسبانه التصويت الذي سينجم عنه بقاء أطول لقوات الاحتلال الأمريكية في العراق، أي فرصةٌ أطول لمقاتلةِ الأمريكيين في الميدان الأنسب ل«القاعدة». وأيّاً تَكُنِ الأسبابُ التي دَعَت بن لادن إلى ذلك الظهور غيرِ المتوقع، فإن النتيجة الوحيدة التي أفضى إليها هي إعادة الجدل السياسيّ الأمريكي الداخلي إلى ثنائية الأمن والبقاء وتمكين الجمهوريين المحافظين من العودة إلى مراكز القرار، مع ما يستتبع ذلك من تمديد منحة العراق والعراقيين لسنوات أخرى! لم يكن الديمقراطيون يوماً أقل سوءاً من الجمهوريين خاصة حينما يتصل الأمر بعلاقة سياساتهم بالكيان الصهيوني، لكن أية إذارة من إداراتهم لم تكون- قطعا- أكثر سوءاً من إدارة بوش، بل هي لن تكون حتى بدرجة سوء هذه الإدارة التي غرّمَتْ أمريكا من صورتها كثيراً ومرّغت كرامة العالم ف يوحل حروبها ومظالمها التي لا سابق لها في تاريخ الإنسانية. أما إذا اقتصرتِ المقارنةُ فقط على مرشحيْ الانتخابات القادمة (أوباما ومكين)، فلا شك أن رصيد الديمقراطيين المعنوي سيكون أعلى من رصيد الجمهوريين. وهما –بالذات- ما يبعث لدى كثيرين في العالم على الخوف من أن يستجدّ طارئ عسكريّ أو أمنيّ يحرّك هواجس الأمن لدى الأمريكيين ويدفعهم إلى إضاعة فرصة تصحيح دولتهم في الأرض... حتى وإن بدرجة نسبية.