لم تخرج مملكة البحرين وغيرها من الملكيات العربية عن دائرة الدول المحتقنة، وإن بدرجات متفاوتة سياسيا واجتماعيا، والمشبعة بوقود الثورة سريع الاشتعال، فقد كانت البحرين من أولى الدول المستوردة لشرارة الانتفاضات العربية، وسبقت إلى ذلك ليبيا التي توشك على الإطاحة بالنظام الدموي للعقيد القذافي، وإلى اليوم لا يبدو أن الوضع بالبحرين ماض نحو الانفراج. بعد الردّ العنيف والمتسرع وغير المبرّر الذي نفذته السلطات البحرينية، وأدى إلى مقتل وجرح العديد من المحتجين، وبعد أن نزل الجيش إلى الشارع بدباباته ومدرّعاته وكأنه سيواجه ديناصورات أو كائنات فضائية لا مواطنين مسالمين عزلا، مما يكشف جانبا مما يمكن أن يحصل في أي بلد عربي، حين تصيب الحكامَ فورةُ الفرعنة والتجبر وفرط الحرص على السلطة. الآن وبعد كل ذلك الاستعمال والاستعراض المفرط للقوة، تجشمت الحكومة البحرينية عناء دعوة المعارضة إلى الحوار، لتبدو دعواتها متأخرة ومتكلفة، بل لتظهر تلك الدعوات وكأنها أوامر قسرية بالجلوس إلى طاولة الحوار تحت ظلال السيوف، حوار يعيّن النظام البحريني بنوده وحدوده ويضع بنفسه سقفا لمطالب المعارضة، وما على هذه الأخيرة إلا القبول بما يتكرم عليها النظام به، ما دامت ستفاوض من موقع ضعف وتوجّس من أن يعاود البطش بالمعارضين وعموم المحتجين، لكن كتلة الوفاق الإسلامية المعارضة كان لها رأي آخر، فتشبثت باستقالة نوابها من البرلمان، بينما دعا المعارض البارز العائد مؤخرا إلى البحرين حسن مشيمع إلى «ضرورة أن تنتبه القوى المعارضة في البحرين وأن توحد الصفوف وتركز على المطالب»، وبذلك يتضح أن هناك هوة بين ما يعرضه النظام من تعديلات وإصلاحات، ومطالب المعارضة التي اعتبرت التعديل الحكومي الأخير التفافا على مطالبها ومحاولة لتفكيك صفوفها. أعتقد أن مشكل البحرين أعْقَدُ مِنْ أن يجد له حلا من خلال مفاوضات يطرح النظام أجندتها، لأنه مشكل طائفي لم يخْفِه تحولُ الدولة إلى ملكية منذ بضع سنوات، مشكلٌ أعقد من المشكل الطائفي اللبناني، إذ يضم لبنان ثلاث طوائف رئيسية، استطاعت أن تقيم نوعا من التوازن على علاته، بتوزيع سلطات رئاسة الدولة والحكومة والبرلمان، بينما يستحيل تطبيق نفس النموذج بالبحرين، التي تضم طائفتين، شيعية وسنية، وفوق كل هذا وذاك تضم ملكية «سنية» وأغلبية سكانية شيعية. ولا أدل على أن طيف الطائفية يحوم حول الوضع بالبحرين من أن النظام طالما عمد إلى عمليات تجنيس الأجانب من المسلمين السنة، وهو ما اعتبرته المعارضة الشيعية «حربا معلنة» على حقوقها الوطنية ومطالبها السياسية، وهو ما من شأنه أن يهز ثقة المعارضة في جدية عرض الحوار، وجدوى الحوار أصلا، مع نظام يعبث بالتركيبة السكانية ويقترح وينفذ الحلول الترقيعية الواحدة تلو الأخرى، كإطلاق بعض السجناء السياسيين وتغيير بعض الوزراء، ولا نية بادية لديه لتلبية أهم مطلب يمكن أن يؤدي إلى انفراج الأزمة، ألا وهو التحول إلى ملكية دستورية برلمانية مع ما يقتضيه من تقليص لصلاحيات الملك وحاشيته وما يتطلبه طبعا من إلغاء تام للطائفية من الحياة السياسية، ولمَ لا إلغاء القوانين والقرارات وتجريم الممارسات المبنية على أساس طائفي. وإذا ما استمر النظام البحريني في استبعاد مثل هذه الحلول الحقيقية الدائمة، فإنه لن ينجح طويلا في إخماد جذوة الانتفاضة الشعبية، بمجرد استعراض القوة الأمنية والعسكرية، بل إنه قد يزيد من تأجيج الغضب الشعبي والاحتقان الطائفي، فقد أثبتت ثلاث ثورات عربية متتالية أن إرادة الشعوب لا تُقهر وأنها في الأغلب الأعم لا تجتمع على ضلال، لذلك فعلى النظام البحريني أن يتوقع موجات احتجاجات أعنف وأكثر دموية، لا قدّر الله، إن لم يبادر إلى الإذعان للمطالب المشروعة للشعب في العيش المشترك الكريم. نعم، سيكون على النظام البحريني اتخاذ قرار قاس يتمثل في الإذعان طواعية لمن أرادهم أن يذعنوا له بحدّ السّيف. لكنها ضريبة عليه أن يدفعها لتفادي انهياره، إذ لا أظن أنه ستنفعه طويلا هرولة الجيش إلى الشارع ومحاولة قوات الأمن إحداث مفعول الصدمة بالقتل والترويع (على شاكلة تعامل السلطات الكويتية مع نواب الأمة ويزيد)، ولا حتى ما يعوِّل عليه من دعمٍ خليجي، سعودي على الخصوص، تبرّره مواجهة ما يمكن أن ينجم عن «استيلاء» الأغلبية الشيعية على السلطة بالبحرين من «مد شيعي»، كالذي حصل بالجزر «الإماراتية» أو من «جَزْرٍ سُنّي» كالذي حصل بلبنان، وبالأخص في هذه الفترة «العصيبة» التي تشهد تقلص معسكر الاعتدال «السني مائة في المائة» إلى أدناه بعد خلع مبارك، إذ ليس النظام السعودي ذاته أبدا بمنأى عن عدوى الثورات، رغم التقارير الغربية المتفائلة بخصوص الملكيات العربية، تقارير للتذكير هي لجهات ومراكز أبحاث وأجهزة استخبارية غربية فشلت جميعها في توقع الحد الأدنى عن مجرد إمكانية قيام إحدى الثورات العربية. فإذا كان النظام السعودي يرى، خصوصا بعد انتشار دعوات إلى الاحتجاج يوم 20 مارس، أنّ استباق اندلاع الثورة لديه يبدأ حيثما اندلعت بوادرُها بالخليج، فإنه لا يملك للنظام البحريني شيئا إذا ما استمر هذا الأخير في الاستهانة بمطالب التغيير العميق في بنية النظام، رغم ما قيل عن إرسال دبابات إلى البحرين، فلكلّ نظامٍ وقد اشتدّت فورة الثورات العربية شأنٌ يُغْنِيهِ. عبد اللطيف البوزيدي