التقيت الزعيم الليبي معمر القذافي مرة واحدة يتيمة في باب العزيزية، القاعدة العسكرية حيث يقيم وأسرته في شهر غشت عام 1999، أجريت خلالها لقاء صحافيا مطولا استمر ثلاث ساعات، نشرت معظمه في «القدس العربي» في حينه، ولم ألتقه بعدها رغم الدعوات المتكررة لأسباب عديدة يطول شرحها. بعد فترة انتظار محدودة في الصالون التابع لمدير مكتبه الحاج بشير، اصطحبني المدير إلى منطقة خضراء خالية من المباني باستثناء مجموعة من أشجار النخيل كانت تحمل بلحا ورطبا ناضجا، وكانت هناك ثلاث خيم متشابهة تماما في لونها وحجمها، مكثت قليلا في إحداها، ثم لمحت العقيد بملابس بيضاء بسيطة يتوجه إلى خيمة أخرى. وأشير عليّ بأن أذهب إلى هناك حيث سيكون اللقاء. في الخيمة مكتب بسيط، كان يضم مجموعة من الكتب ذات الوزن الثقيل مثل «سقوط الإمبراطوريات» لبول كندي، و«نهاية التاريخ» للكاتب الأمريكي فرانسيس فوكوياما، و«العولمة» لا أذكر من هو مؤلفه، وكان مترجما عن اللغة الإنجليزية، علاوة على بعض كتب السيرة والحديث وتفسير القرآن الكريم. نصف اللقاء غير المسجل كان حوارا في السياسة والأوضاع في الشرق الأوسط، وخيبة أمله من العرب الذين خذلوه بعدم كسر الحصار الذي كان مفروضا على بلاده بعد جريمة لوكربي، وتوضيح أسباب إدارة ظهره لهم والاتجاه إلى العمق الإفريقي، وأعترف بأنني شاركته خيبة الأمل بل والغضب من الموقف العربي الرسمي المخجل، ولكنني لم أتفق معه مطلقا في التبرؤ من عروبته. أبدأ بهذه المقدمة لكي أختلف مع الكثير من الآراء التي تتهم العقيد القذافي بالجنون، وهي آراء طفحت بها شاشات التلفزة في الأيام الأخيرة على ألسنة أناس لم يعرفوا الرجل، بل أشك في أنهم يعرفون ليبيا وجغرافيتها وديموغرافيتها، والخريطة القبلية فيها. الرجل ليس مجنونا، أقولها ليس دفاعا عنه، وإنما عن سبعة ملايين مواطن ليبي حكمهم لأكثر من أربعين عاما، ولعشرات بل ربما مئات الملايين من العرب أحبوه في فترة ما ورأوا فيه زعيما ثوريا ناصر ثورات العالم العربي، بل وفي أكثر من بقعة من المعمورة. ولذلك، فإن القول بأنه مجنون هو إهانة للشعب الليبي مثلما هو إهانة لهؤلاء العرب المخدوعين. الشيء المؤكد أنه رجل في قمة الخطورة، ولن يتورع عن فعل أي شيء من أجل البقاء، وعلينا أن نتذكر أنه قاوم حصارا غربيا لعدة سنوات، ونجا من أكثر من محاولة اغتيال، وأقدم على حل الجيش الليبي بعد أول محاولة انقلابية أرادت الإطاحة به قادها عمر المحيشي، زميله في مجلس قيادة الثورة، الذي أعدمه لاحقا بعد تسليمه من قبل ملك المغرب الراحل الحسن الثاني في صفقة يندى لها الجبين. الثورة المندلعة حاليا في أجزاء متفرقة من ليبيا مشروعة، ومطالب أبنائها منطقية، ويجب أن تحظى بالدعم والمساندة من كل طلاب الحرية في منطقتنا، وهي حتما ستنتصر في نهاية المطاف مثل نظيرتيها في تونس ومصر، وكل الثورات المماثلة، والمتوقعة، في أكثر من بلد عربي في المستقبل القريب. المشكلة تكمن في قبلية الشعب الليبي، وجلوس العقيد على ثروة هائلة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات ومن العملات المختلفة يوظفها حاليا لشراء الذمم، وتجنيد أكبر عدد ممكن من المرتزقة، مضافة إلى ذلك وحداتٌ من الميليشيات المسلحة بشكل جيد تنضوي تحت لواء ما يسمى بالجيش الشعبي. صحيح أن بقايا النظام الليبي وقائدها باتت أكثر ثقة بعد مرور أسبوعين، لنجاحها في امتصاص الصدمة جزئيا، أو بدء التعايش معها، وتراجع حالة الارتباك التي شاهدناها على وجه العقيد وفي خطاباته النزقة والنارية، ولكن الصحيح أيضا أن الثوار المعارضين لحكمه بدؤوا يعيدون ترتيب صفوفهم، ويحافظون على مكتسباتهم، ويتصدون بشجاعة لهجمات فلول النظام التي تريد استعادة بعض المدن التي جرى الاستيلاء عليها. دول الخليج العربي قاتلت أثناء اجتماع وزراء خارجية الدول العربية الأخير في القاهرة من أجل استصدار قرار بالموافقة على التدخل الأجنبي، وإقامة مناطق حظر جوي فوق ليبيا تحت عنوان منع العقيد القذافي من استخدام الطيران لضرب الثوار على غرار ما حدث قبيل الغزو الأمريكي للعراق. هذا الموقف الخليجي جاء بإيعاز من بريطانيا والولايات المتحدة، لتسهيل موقف البلدين على مجلس الأمن الدولي للحصول على قرار ملزم لتطبيق الحظر، وتليين الموقفين الصيني والروسي المعارضين لمثل هذه الخطوة بالمحاجّة بالقول بأنه إذا كان العرب موافقين على هذا الحظر، فلماذا يعارضه الروس والصينيون؟ الثوار في بنغازي رفضوا ما قبل به وزراء خارجية دول الخليج والأردن، وعارضوا أي تدخل خارجي، وكذلك فعل الشيخ سالم جابر إمام صلاة الجمعة في بنغازي أمس (يقصد يوم الجمعة) عندما قال: «لا نريد تدخلا عسكريا، ولا تدخلا أجنبيا، لدينا ما يكفي من الرجال لحسم المعركة»، وتطرق مرارا إلى وحدة الشعب الليبي وقال: «إننا قبيلة واحدة في الشمال والجنوب والشرق والغرب ننتمي إلى قبيلة واحدة اسمها ليبيا وعاصمتها طرابلس». الثوار الليبيون يظهرون درجات عالية من الوعي، وعزيمة صلبة على مواصلة ثورتهم حتى تتحقق جميع مطالبهم في الحرية والعدالة والمساواة وبناء ليبيا جديدة حديثة عصرية، بعيدا عن اللجان الثورية ودجلها، واجتهادات الفاسدين ووعاظ السلاطين. أي تدخل أجنبي سيجهض هذه الثورة، وسيطيل من عمر النظام، وسيحول الزعيم الليبي إلى بطل يقاوم مشروعا استعماريا يريد الاستيلاء على ليبيا ونفطها وخيراتها، مثلما يريد تركيع شعبها. شباب الثورة الذين يواجهون الموت في أكثر من قرية ومدينة وحارة هم المرجعية الأساسية التي يجب التشاور معها ومعرفة مطالبها، تماما مثلما فعل المجلس العسكري المصري عندما ذهب إلى شباب ميدان التحرير للتشاور معهم حول الشخصية التي يريدونها لتولي رئاسة الوزراء، وكان لهم ما أرادوه. العقيد معمر القذافي رجل خطير مثلما قلنا، وسيستخدم كل ما في جعبته من أوراق وأسلحة وأموال لاستعادة عهده الغابر، خاصة بعد إغلاق كل المخارج في وجهه، وصدور قرار من الأنتربول باعتقاله وأبنائه ومجموعة من الدائرة المحيطة به وتجميد أرصدته في الخارج، ولكنه في الوقت نفسه سيوظف أي تدخل خارجي لمصلحة نظامه، وهو بارع في ذلك. الأزمة الليبية ستطول حتما، وهذا خبر سيئ، فليبيا ليست مثل تونس ومصر حقا، فليس فيها مجتمع مدني، ولا جيش وطني، ولا طبقة وسطى، ولا رئيس مسؤول يريد حقن دماء شعبه والرحيل بعد أن سئمه الحكم، مثلما سئمه شعبه. الخبر الجيد الوحيد يتمثل في صمود المعارضة ووطنيتها، واستعدادها المؤكد للتضحية، وفشل كل محاولات شقها، وحفاظها على مكتسباتها، ودعم الغالبية الساحقة من العرب والعالم لها.