سأحاول في هذا المقال تسليط بعض خيوط ضوءٍ بين سياستين: سياسة سبق أن وصفتها بالبؤس في مقال سابق (وعنيت به المحسوبية والفساد ومعاملة خلق الله كأنهم قطيع، واستغلال النفوذ مستمدا من عائلة أو مسؤول وغير ذلك من ملامح يأتي تفصيل بعضٍ منها في هذا المقال)، من جهة، والسياسة كما تمارس في الغرب، من جهة أخرى، وخاصة في «أمة الزمان»: الولاياتالمتحدةالأمريكية. ليست هذه دعوة إلى التشبه بالغرب في نُظمه السياسية، وإن كان الحق أحقُّ أن يُتَّبع، ولكن لبيان حقيقة البؤس السياسي عندنا والمسافة التي تفصله عن الشعارات الجوفاء التي يرفعها من مثل «خيار الحداثة» ومشروع «الدَّمقرطة» و«مشروعية التاريخ»... الديمقراطية عندنا والتي نقرنها، ظلما وعدوانا، بمفهوم «الحداثة» الفضفاض والهُلامي (وتفصيل ذلك في غير هذا المكان)، هي أولا وقبل كل شيء «تناوب». ومعنى التناوب حقيقة هو مطلب معارضي الأمس باستدراك ما فات من الزمن، كان «التمتع بالسلطة» وما يصاحبها من نفوذ وجاه مقصورا على ثلة معروفة اصطلح عليها بأحزاب الإدارة، ذلك أن هؤلاء المعارضين إما قوم صدقوا ما عاهدوا ماركس عليه، فكان نصيب بعضهم الموت أو التهميش لصدقهم في «الطلب»، وارتدَّ البعض الآخر عن «عقيدته» وأراد تعويض ما فاته من ملذات الحياة، كما أن من هؤلاء القوم المعارضين أناسا رأوا في استئثار الملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني، رحمهما الله، بالسلطة دونهم «خيانة» ل«نضالاتهم» وقد آن أوان قطف ثمار هذه «النضالات و«تصفية» إرث «الخيانة»، ولذلك تراهم في كل دواليب الدولة كالجراد المنتشر. الديمقراطية، ثانيا، هي عندنا استثمارٌ وزرعٌ يحين أوان حصاده في كرسي البرلمان أو حقيبة الوزارة، وذلك «بؤس السياسة» عندنا كما ذكرت ولا أملُّ من إعادة المصطلح. هذا الاستثمار الذي يكون بالنفوذ السياسي كالذي يستولي على دائرة انتخابية ب«وضع اليد» أو الذي يصرف المال «جهارا نهارا»، كما يُقال، أو الذي يستعين بالمقدمين والشيوخ وغيرهم لتزوير «نتائج» كرسي، أو كالذي يهتف في الناس، حالا كان الأمر أم مقالا: «أنا صديق الملك»، ومن ثم يعتقده الناس «خاتم سليمان» يحل لهم مشاكلهم، فيصنع النفوذ و«الشعبية» بما لا ينبغي له. ولربما انبرى معترض علي من هؤلاء أو من غيرهم فقال: إن الاستثمار في الانتخابات هو ما تقوم به الدول «الحديثة» في ما يسمى بتمويل الحملات الانتخابية بأموال طائلة، وخاصة في «أمة الزمان» الآنفِ ذكرُها. جوابي كالتالي: إن الذين يصرفون أمولا طائلة في حملاتهم الانتخابية، رئاسيةً كانت أو تشريعية، في دول الغرب «الديمقراطية»، يفعلون ذلك وفي أذهانهم تصورات لما يعتقدون أن المجتمع ينبغي أن يكون على صورته (والنقاشات الدائرة رحاها في الفكر السياسي الأنجلوسكسوني خاصة والغربي عامة خير مثال على ذلك، وانظر -إن شئت- إلى النقاشات الكثيرة والثرية التي أثارها في الغرب كله كتاب رولز «نظرية في العدالة»). قبل الحملة الانتخابية في هذه الدول، توجد قسمات مائزة لهذا المرشح تميزه عن غيره بما يميل إليه من مواقف يرى فيها مجتمع المستقبل. والناظر في هذه النقاشات يرى مُحاجة وجدلا واستدلالا تُذكر بما كان أسلافنا يقومون به في ما عُرف عندهم بعلم الكلام. (ومن شاء أخذ فكرة وجيزة عن هذه النقاشات فلينظر محاضرات المفكر السياسي المعروف michael sandel بجامعة «هارفارد»، وهي موجودة على موقع Academic earth أو «يوتوب»). أما عندنا فالمرشح للانتخابات يتقدم إليها وفي ذهنه «تصور» لنوع السيارة التي سيركبها وتَميُّز المدرسة التي سيدرِّس فيها أبناءه والملابس المُوَقّعة التي ستتزيا بها عقيلته والمناصب التي سيُمكِّن منها بنفوذه عائلَته الأقربين، ولا وجود في هذا «التصور»، إن صح فيه هذا الوصف، ولا في هذا النوع من السياسة للمجتمع ومستقبله. وربما ذلك ما يُفسر أن هذه الأحزاب مهماتها الرئيسية انتظارُ «إشارات» الملك، لتحديد أولويات البلد، وكأن لسان حال هذا النوع من السياسة يقول: «إن للأحزاب أولوياتها العائلية والشخصية، وتلك علة وجودها، ومن ثمّ لا بد من تذكيرها، مرة مرة، بأن هناك شعبا من المفروض أن «تقَضي بعضُ «حوائجه». ويقيني أن البعض سيقول مرددا كلاما باهتا يخرج من فم ناطقه عند التفوه به غُبارُ القَدامة، ومفاده أن هذه الأحزاب «المسكينة» مُكبَّلة بدستور يحد من صلاحياتها. والجواب ظاهر للعيان: أنظروا ماذا فعلتم بالبلاد بالصلاحيات التي لديكم، جعلتموها قسمة بينكم، فماذا ستفعلون بها، لو كانت لكم صلاحيات أكبر، كما أن هذا المعترض المفترض ينسى أن هذه الأحزاب لا تمارس حتى صلاحياتها التي يُخولها لها الدستور. لا يُفْهمنَّ من كلامي أني ضد تعديل الدستور، وليتذكر قارئي أنني أتحدث عن سياستنا البئيسة بأحزابها، وهي وغيرها من التنظيمات من عليه أن يُطالب بتغيير الدستور، لأن قناعتي أن التفاوض على أي شيء يتم وفق موازين قوى. والذي همه من دنياه سيارة فارهة ونفوذ يُمكّنه من توظيف عائلته الأقربين وتحصين نفسه من القضاء، سيكون من الغباء أن ننتظر منه أن يُدافع عن غير ما يُديم عليه تلك «النِّعم».