«سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأُملي لهم إنَّ كيدي متين». (سورة الأعراف، الآيتان 182-183) أينما ولّيت وجهك في بلاد العرب تجد مظاهرات وحرائق في الأحياء، لا في الأشياء، باكين وشاكين ومتمددين على الأرض من فرط ما صرخوا وعدَوْا ولعنوا مَنِ اعْتَدَوا. وأينما وجهت أذنك سمعت تحليلات و«تهليلات»، بعضها جعل من هذه الأحداث، التي نحسبها مباركة إن شاء الله، انبعاثا وصورة للثورة الفرنسية و«التنوير» و«الحرية»، إيغالا منهم في التغريب والكذب على أنفسهم وعلى الناس، والبعض الآخر اغتنمها فرصة لتصفية حسابات قديمة مع نظامه. ويقيني أن عقيرتهم لم ترتفع من أجل المستضعفين، ولكن تفريغا لما قد يُوَرِّثُ في أجسامهم فالِجًا لو أطالوا إبقاءه في صدورهم، كما قال بشار بن برد لبعض أنصاف الشعراء تعليقا على أبيات تلوها عليه. الذي قد «يغيظ» في كل الحكاية أن الذين يُفسرون الأحداث بمصطلحات «الديمقراطية» و«الحرية» و«المساواة»، تجد أغلبهم يكررون ذلك من داخل سياراتهم الفارهة ومكاتبهم الفخمة وفيلاتهم المكيّفة بدعم من أموالٍ كان ينبغي رصدها للفقراء و«أشباه» الفقراء، وما أكثرهم في البلاد العربية. سيقول قارئ هذه الأسطر: وما الذي أخرج الناس إلى الشارع ليجعلوا من صدورهم العارية مرمى لرصاص «رجال الأمن»؟ أليست الحرية بغيتهم؟ أليست الديمقراطية «أسمى أمانيهم»؟ ربما كان كلُّ ذلك أو بعضه حقا، لكن صاحب «العربة المأثرة»، البوعزيزي الشهم، لم يكن عنده من أسباب العيش ولا من ترف الثقافة ما يجعله ناشدا لبعض أو كل ما ذكرتُه، لكن كانت تنقصه الكرامة ولقمة العيش الكريمة أولا. ولا ينبغي أن يُفهم من كلامي ما يُريده من يتصيد العثرات حتى بمجهر، فالديمقراطية هي أقل الأنظمة استبدادا كما قال تشرشل، وذلك أذكى ما قرأته في الباب، وهي أفق ممكن ومرغوب للإسلامي والعلماني وما بينهما، كما ذكرت في مكان آخر. ولكن الطريق إليها وإلى الحرية الحقة لا يمر عبر ذاك النوع من السياسة الذي وصفته بالبؤس في مقال سابق «بؤس السياسة» (وعنيت به المحسوبية والفساد ومعاملة خلق الله كأنهم قطيع واستغلال النفوذ مستمدا من عائلة أو مسؤول)، ولا نوع الخطابات التي تصمُّ آذاننا يوميا في دعوات مفتوحة لنقتفي خطى الغرب حتى بغير طريق سالكة إليه، وإنما بثرثرة متعالمة تتوسَّل بألفاظ لا يعلمون لها مرجعا واحدا في أذهانهم، من مثل الحداثة والعقلانية، ترهيبا فكريا لخلق الله وتقرّبا عن حسن نية، خالطها تغرير، أو تزلُّفا لجيوب المانحين. مقاربتي ليست لمخالفة السائد، فذلك آخر همومي، ولا تزلفا لجهة فلست منتميا إلا إلى ديني وبلدي، ولكن لأن الثرثرة التي ملأ بها البعض الدنيا وشغل بها الناس ما عاد يجب السكوت عليها، خاصة إذا كانت مصادرها تتراوح بين الدعيّ والمأجور. مقاربتي تَنشد فتح آفاق ممكنة لقراءة واقعنا بعيدا عن مزايدات «سياساتنا»، إن صح فيها وصف السياسة أساسا. وحتى لو كانت قاصرة فأرجو أن يكون لها فضل فتح آفاق ممكنة للتفكير والرؤية خارج طاعون التصنيفات الغبي الذي أضحى الاشتغال به كحل الكلمات المتقاطعة عند الكثيرين. فالناس جميعا في هذا الأفق الضيق من «التفكير «بيادق» تتحرك من داخل خانات حُدِّدت سلفا. سيقول البعض: «ذاك ما تفعله أنت». ولكن قراءة منصفة لما كتبته ستشهد لي بأني أنتقد مقولات مكرورة كالأسطوانة المشروخة، كما أنني أنتقد الذين يتحركون وفق إملاءات المراكز الثقافية المعلومة للجميع ليجعلوا من بعض البلاد العربية أشكالا «كاريكاتورية» لمشاكل الاندماج في بلدان هذه المراكز، رغم أنف فارق السياق والتاريخ والدين. (وحججي على الدعوى التي مفادها أن الذين «يهرفون» حول المعرفة الغربية بما لا يعرفون، مكانُ بسطِها غيرُ هذا المقال). وحتى لا أطيل في استطرادات، قد تبعدنا عن القصد، أقول إن مقاربتي لتفسير ما يحدث في بلاد العرب وغيرها يجد منطلقه في السياق التاريخي لنشوء المجتمعات، الغربية والعربية على السواء. فالذين قاموا بتعيين الحاكمين بأمرهم في بلدان العرب، بشكل أو بآخر، هم الغربيون، ويخصنا من هؤلاء: فرنسا والولايات المتحدة، ومن ورائهم الغابة الفتاكة التي تجسدها شركات النفط والسلاح وغيرها من الشركات متعددة الجنسيات ظاهرا، والغربية«البيضاء» حقيقة بمشاريعها المرعبة من عولمة وترحيل للخدمات والمصادر. إن شرط بقاء الترف الغربي في اقتصاد اليوم، وربما إلى حين فقط، هو بقاء دول العالم الأسفل فقيرة في مجملها محقونة بلقاح ضد الأجور المحترمة والعيش الكريم والاقتصاد غير التابع. ينبغي أن تبقى دول «العالم الثالث» والعوالم غير المصنفة احتياطيا لليد العاملة الغربية (وانظر كيف يطرد العمال من البلدان المذكورة وكيف يعاملون بعدما يسمى ب«الأزمة العالمية») وينبغي أن يبقى أطفالنا احتياطيا لمستقبل أساليب الحياة في الدول الغربية الآيل أهلها للانقراض، وينبغي أن تبقى أراضينا مدافن تحت اليد لبقايا المصانع الغربية التي قد تؤْذي الإنسان بالمعنى الذي جاء به اللفظ في البيان العالمي لحقوق الإنسان، وهو «الإنسان الغربي»، وهو على الحقيقة «الإنسان الأبيض». يريد الغرب، وخاصة من استيقظت في صدورهم عنجهية الأمس وعنصريته، أن نبقى كما نحن سواسية «كأسنان كلاب البادية» كما قال شاعر العراق الكبير أحمد مطر. ولكن يبدو أن رياح التاريخ تتجه إلى حيث المجهول عن معارفهم التي لا تتجاوز استنفاد خيرات الأرض، حتى قال في ذلك أحد فلاسفة الغرب الكبار وشاهد من أهله، وهو هيدجر، إن العقل الغربي اختزل الطبيعة بل الكون في «مخزن» جاهز للاستهلاك. ومن ثم، فالرؤوس الحاكمة لهذه الدول ينبغي ألا تتحرك خارج هذه «الأجندة» الغربية. وليست هذه الأخيرة على استعداد لقيام دول، وخاصة دولا مسلمة، مستقلة ينعم أهلها بعيش كريم. ربما كانت «آية الله» المتجسدة في الشهيد البوعزيزي و«عربته المباركة»، ضوءا في نهاية النفق العربي، و«إملاءً» من الله لحاشية زين الهاربين الذين كانوا ينتظرون دورهم للجثوم على صدر الشعب التونسي قبل أن يضع ليلاه على كرسيه، وربما كانت أحداث تونس إملاءَه تعالى لحاشية مبارك ليسرقوا مفاتيح الكنانة قبل أن يُسلِّمها إلى ابنه. ذلك دليل التاريخ بمصطلح معارف البشر، وكيد الله المتين بمصطلح القرآن الكريم، لبيان أن المتآمر، غربيا كان أو شرقيا، مهما فكّر وقدَّر فلن يستطيع وضع خريطة لحيوات المجتمعات، وأن الأوراق يحدث لها أن تختلط وأن الأرقام يحدث لها أن تُجانب الصواب أو يُجانبها. ربما كانت هذه الأحداث المباركة فاتحة عهد جديد وفرصة تاريخية للعرب للتخلص من ربقة «الاحتياط النفطي والبشري والقُمامي» للغرب. ربما آن لحكامنا أن يقولوا لهذا الغرب أن من حق العرب والمسلمين أن تكون دماؤهم وأعراضهم وكرامتهم كما هي عنده، كما أن من حقهم أن يخرجوا من أقفاص الفلكلور المُسلّي لترف الغربي بدعوى السياحة. ربما علينا أن نؤمن ولو للحظات بأن بإمكاننا أن نصنع «ثورتنا» ونعيش وفق هويتنا دون وصاية غرب أو تاريخ غريب عنا. حاصل مقاربتي أن ما يقع هو انفلات أمني داخل النظام العالمي (أي الغربي)، وما يقع فرصة تاريخية للتخلص من الدونية داخلنا، حيث لا نشعر بالاعتزاز إلا إذا تشبهنا بأسلوب أو (على الأصح) بأساليب الحياة الغربية. ربما اقترب أوان تحولنا بشرا سواسية كأسنان المشط بلا وسائط ولا محسوبية، لأن الذين باعوا أوطانهم لعائلاتهم بدؤوا رحلتهم نحو لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. والذين يرددون بلا كلل مصطلحات التنوير والحداثة العقلانية وهم يريدون بها ما لا يخفى إلا على خِبٍَّ، عليهم أن يتذكروا أن ما يسمى حداثة نتاج تاريخ لا يقبل الاستعادة، وإلا فليأتونا بمستعمرات وسفنِ استرقاق وعنجهية كالتي عرفتها عصور تكوّن الحداثة، كما عليهم أن يقبلوا بأن الاستعارة الإرادوية لبناء الحداثة أسطورة آن لها الأفول. وما يحدث اليوم هو تشكُّل مستقبل لم تتضح ملامحه، ومهمتنا تجاهه وتجاه أبنائنا هي محاربة التغليط والتغريب والتصور البائس للسياسة، والمساهمة في تشكيل هذا المستقبل برَويَّة وحزم وتمسك لا يلين بمطلب الكرامة.