في عهد شارل ديغول وجورج بومبيدو وفرانسوا ميتران، بل وحتى في فترة حكم جاك شيراك، كانت السياسة الخارجية لفرنسا مرآة ساطعة لموقعها ونفوذها السياسي والثقافي في العالم. ويحفظ التاريخ ذكر وزراء خارجية بقيت أسماؤهم لصيقة بفرنسا من أمثال: موريس شومان وميشال دوبريه وميشال جوبير ورولان دوما وهيرفي دوشاريت وآلن جوبيه ودومينيك دو فيلبان وهوبير فيدرين... مع نيكولا ساركوزي، تقلص دور ونفوذ بلد حقوق الإنسان وبهتت صورته، لسبب بسيط: الاستنفاذ الشخصي والصبيانية والعفوية في تسيير وتدبير الملفات المصيرية للسياسة الخارجية. تصرف ساركوزي مع هذه الوزارة العريقة بعد أن أفرغ منصب الوزير من صلاحياته وأحال اختصاصاته على مستشاره هنري غينو، وكأنها بيت عائلي! وقد صدقت في هذا المجال قولة أحد الصحافيين الذي اعتبر أن ساركوزي مصاب بالمرض الطفولي للبرلوسكونية بوصفها انتكاسا نرجسيا: «أنا الجميل، الذكي، القوي، الثري... واذهبوا جمعيا إلى الجحيم!». دوليا، وبسبب السياسة الساركوزية، توجد فرنسا إذن في وضع بهدلة. بعد تورط ميشال آليو-ماري في صفقات ارتشاء مع النظام البائد للطاغية بن علي وحاشيته، وكشف النقاب عن تورط زوجها في صفقات أسلحة مع نظام السفاك القذافي، و»تبنديق» فرانسوا فيون، الوزير الأول الفرنسي، للدكتاتور المغلوع حسني مبارك، انفجرت فضيحة بوريس بويون، السفير الجديد لفرنسا في تونس، الذي «حقر» مجموعة من الصحافيين التونسيين تقدموا لمحاورته. تصرف هذا السفير المتصابي، الذي يعرِّف نفسه ودون خجل بكونه Sarkoboy، من جيل «ساركوزي»، الذي يتحدث العربية بطلاقة، بعقلية المستعمر الجديد الذي يجب أن يركع له الصحافيون ولا يعارضوا رأيه. بعد هذه اللطخة التي دعت السفير إلى تقديم اعتذار إلى الصحافيين وإلى التونسيين على القناة الوطنية التونسية، فقدت فرنسا ريشها مع المكسيك على خلفية السجينة الفرنسية فلورانس كاسيس التي حكمت عليها محكمة مكسيكو بستين عاما سجنا بتهمة تورطها في اختطاف أطفال... وبأهداف وطنية بائخة تضمر في الواقع أهدافا انتخابية لجلب عطف الناخبين، قرر ساركوزي، دون استشارة أحد، وضع «سنة المكسيك الثقافية» التي كان من المزمع تنظيمها في فرنسا تحت شعار فلورانس كاسيس، الشيء الذي أثار سخط المكسيك، الذي قرر سحب مشاركته من برنامج الاحتفاليات! استدعى هذا التصرف ردود أفعال عنيفة من طرف كتاب ومثقفين نددوا بالشطط الساركوزي والتعامل مع الثقافة بعقلية الابتزاز. وفي هذا الصدد، كتب الروائي المكسيكي كارلوس فوينتيس مقالا عنيفا نعت فيه تصرف ساركوزي بكونه شبيها بتصرف «دكتاتور جمهورية موزية». بعد كارلوس فوينتيس، خرج جان ماري غوستاف لوكليزو، الحائز على جائزة نوبل للآداب والذي تربطه بهنود المكسيك علاقات روحية، ليندد، عبر رسالة إلكترونية بعثها إلى صحيفة «ميلينيو»، ب«غطرسة واستخفاف نيكولا ساركوزي وحكومته بالنظام القضائي المكسيكي». «وسّخ» ساركوزي إذن صورة فرنسا في الداخل والخارج. وقد طالت مطباته جسم الهيئة الدبلوماسية الفرنسية بمختلف مستوياتها،موظفين وقناصلة وسفراء وموظفين سامين، والذين حولهم إلى مجرد منفذين تقنيين لقرارات فوقية. وهذا ما أعربت عنه مجموعة من الدبلوماسيين المنتمين إلى أجيال مختلفة في عريضة نشرتها صحيفة «لوموند» في عددها المؤرخ ب23 فبراير. يأسف هؤلاء على تقلص مكانة ودور فرنسا في الملفات والمواقع الحيوية الكبرى: في الملف الإفريقي، المتوسطي، الصيني، على المستوى الاقتصادي والنووي وفي ملف الشرق الأوسط.. «لقد اختفى صوت فرنسا»، تشير العريضة. وينسب الدبلوماسيون هذا التراجع إلى غطرسة وحقد رئيس الدولة الذي يعتبر المسؤول الأول عن تسطير وترسيم السياسة الخارجية الفرنسية، ويطالبون بإعادة تقويم السياسة الخارجية الفرنسية بوضعها على أسس جديدة من الانسجام والفاعلية والتكتم. إلى صوت هذه المجموعة، انضاف صوت دومينيك دوفيلبان الذي ندد منذ مدة بالانجرافات والانحرافات السياسية والدبلوماسية لساركوزي. في لقاء جمعه يوم الخميس الماضي بنيكولا ساركوزي، كرر دوفيلبان على مسامع الرئيس نفس الانتقادات، قبل أن يفسخ انتماءه إلى حزب ساركوزي. بعد كل هذا وذاك، ماذا بقي من صورة فرنسا في الخارج؟ ماذا بقي من جاذبيتها وغوايتها سوى لعكر على لخنونة!