زكية داوود .. سيدة لا تبرح خاطر الصحافة المغربية، حاضرة في الذاكرة حتى عندما تختار الغياب، حين تبحث عن المشرق في الإعلام المغربي. هي واحدة من أكثر الشخصيات رمزية في الصحافة المغربية، أسست بالاشتراك مع زوجها محمد لوغلام سنة 1966 جريدة «لاماليف» التي استقطبت طيلة فترة صدورها التي دامت 22 عاما مفكرين وأكاديميين بارزين.. لم ينل التشكيك في انتمائها والمضايقات في سنوات الرصاص، وإعدام مولودها «لاماليف» من تفاؤل وعزيمة وألق هاته السيدة، الصحافية والكاتبة، فاستحقت احترام من ناصبوها العداء، قبل الأصدقاء. - بعد حصولك على شهادة الباكالوريا سنة 1955، غادرت مدينتك نورماند دورناي للالتحاق بمدرسة الصحافة بباريس. هل حلمت يوما بأن تكوني صحفية؟ < كنت أحلم دائما بأن أكون صحفية عندما أكبر.. تابعت دراستي الابتدائية بمدرسة دينية، وكنت أهوى مطالعة الكتب بنهم بمعدل كتابين في اليوم. أتذكر ذاك السؤال الذي طرحته على إحدى صديقات العائلة عندما سألتني عن حلمي في الحياة، أخبرتها في الحين أنني أريد أن أكون صحفية. كنت أتردد باستمرار على سيدة عجوز بفيلتها الصغيرة، وأسرع لتصفح كتب خزانتها بحماس طفولي والإنصات إلى نصائحها. كنت أعود في اليوم الموالي حاملة معي الكتب التي قرأتها لأبحث عن أخرى.. بعد حصولي على شهادة الباكالوريا، انتقلت إلى باريس للعمل في مصنع صغير والدراسة ليلا.. ذات يوم، وبينما كنت أتجول في شارع رين استوقفتني بناية كتب عليها: «المدرسة العليا للصحافة»، لم أتردد حينها في الدخول إليها للاستفسار عن شروط الانتساب إليها.. تحمست جدا لفكرة الدراسة بها وادخرت مصاريف الدروس التي كانت وقتها موزعة بين الدراسات الاجتماعية والعلاقات الدولية.. انتظمت في حضور الفصول الثلاثة الأولى بعد أن تمكنت من اقتسام السكن مع صديقة لي وكنت أحرص على الاقتصاد في مصاريفي لأتابع دراستي، رغم أن فرنسا عرفت سنة 1955 شتاء قارسا(15- درجة). - هل مررت بمراهقة متمردة؟ < لم يكن من السهل أن تدرس بداخلية دينية والانتقال بعدها إلى مدينة جديدة.. لقد كان نظام المدرسة صارما للغاية. كانت مديرة المدرسة معجبة بعناصر الجيش وفرضت علينا ارتداء زي موحد ذي لون أزرق وأبيض تزينها شعلة صغيرة. لم يكن أمامي إزاء ذلك سوى الانكباب على الدراسة والعمل بجد لأن والدي مافتئ يردد أن مصاريفي تثقل كاهله. لم أكن حينها أحمل أية أفكار ثورية. ماهي المبادئ التي تلقيتها أثناء دراستك للصحافة؟ أهم ما كان يتم التركيز عليه هو قراءة الجرائد والنهل من الثقافة العامة لتحقيق التراكم المعرفي. لقد أدركت أنه لا يكفي فقط التكوين النظري ودراسة الصحافة لتكون صحفيا، بل لا بد أن تتوفر لديك الإرادة وأن تكون تواقا للمعرفة، إضافة إلى روح التضحية، لأن مهنة الصحافة ليست سهلة ولا يتم تعلم مبادئها في المدرسة. ربما ساهمت اليوم التكنولوجيا الحديثة والانترنت وغيرها في إضافة أبعاد جديدة للتكوين الصحفي، لكن رغم هذا من الصعب أن تجد الوصفة الخاصة بالتكوين النظري للصحفي الجيد. - هذا لم يمنعك من أن تتشبعي بمبادئ الفكر اليساري؟ < خلال سنوات الستينات ظهر مفهوم العالم الثالث وعاشت فرنسا على رحى حرب الجزائر، حيث تم التضييق على المغاربة والجزائريين في تلك الفترة، وتم التخلص من عشرات الجزائريين بإلقائهم في نهر السين.. تلك الممارسات خلفت في نفسي أثرا كبيرا وعمقت من تعاطفي مع دول العالم الثالث التي كانت ترزح تحت الاستعمار. أعتقد أنه أن تكون يساريا في تلك الفترة كان أمرا مفروغا منه إذا كنت تعارض ما يحدث أمام عينيك. مررت في إحدى ليالي أعياد الميلاد قرب واجهة متجر للألعاب، واسترعى انتباهي مرور أطفال مشردين بجانبه وأعينهم لا تفارق الأضواء المتلألئة للمصابيح المعلقة على الأشجار، وأحسست في تلك اللحظة بمقدار الألم والحرمان الذي يعاني منه الفقراء والمهاجرون، الذين ليسوا في اعتقادي سوى ظل هذا العالم المشحون بروح استهلاكية ولا يستطيعون في بعض الأحيان مد أيديهم إلينا. أدركت حينها معنى أن تكون جائعا تمشي بخطوات متثاقلة وظهر منكسر بعينين تحملان لمعانا خاصا. كنت أهتم بالفروقات الاجتماعية والايديولوجيات التي تحملها بملامح تحمل الثورة في طياتها. اكتشفت أنني أستطيع أخيرا أن أفهم ما يحس به ضحايا غياب العدالة والظلم الاجتماعي.. وحدها الصحافة كانت في نظري وسيلة قادرة على تغيير ذلك الواقع.