زكية داوود .. سيدة لا تبرح خاطر الصحافة المغربية، حاضرة في الذاكرة حتى عندما تختار الغياب، حين تبحث عن المشرق في الإعلام المغربي. هي واحدة من أكثر الشخصيات رمزية في الصحافة المغربية، أسست بالاشتراك مع زوجها محمد لوغلام سنة 1966 جريدة «لاماليف» التي استقطبت طيلة فترة صدورها التي دامت 22 عاما مفكرين وأكاديميين بارزين.. لم ينل التشكيك في انتمائها والمضايقات في سنوات الرصاص، وإعدام مولودها «لاماليف» من تفاؤل وعزيمة وألق هاته السيدة، الصحافية والكاتبة، فاستحقت احترام من ناصبوها العداء، قبل الأصدقاء. - كيف كان لقاؤك بزوجك المغربي محمد لوغلام؟ < كان محمد يدرس معي بمدرسة الصحافة بباريس في مرحلة كنت مشبعة فيها بأفكار يسارية. كان يتقاسم معي نفس الهموم ونفس التجارب الإنسانية. لقد اضطر إلى التوقف عن الدراسة من أجل إعالة عائلته، وناضل للعيش مثل غيره من المغاربيين. وبعد أن عمل لفترة قصيرة في القاعدة الجوية الأمريكية بالنواصر، رحل إلى باريس للعمل، وانتقل بين مجموعة من المهن قبل أن يختار في النهاية دراسة الصحافة. كان يكبرني بست سنوات بدت في عيني قرونا. اكتشفت من خلاله العالم الثالث ودول المغرب العربي، حيث كانت تونس والمغرب تناضلان من أجل الحصول على الاستقلال، فيما كانت الجزائر غارقة في الحرب لانتزاع حريتها. في الحي اللاتيني حيث أقطن، كان الجميع يتطلع بتفاؤل إلى المستقبل رغم أن الوضع كان يشوبه الغموض، وهو ما لامسته بعد زواجي من لوغلام الذي حملت اسمه، حيث تم إغلاق أبواب صحيفة أمامي وواجهت حينها أول موقف عنصري غذته الظروف السياسية التي كانت تعرفها البلاد. - سنتان بعد لقائك بلوغلام وإنجابك لابنك، اتخذتما قرار العودة إلى المغرب. كيف جاء هذا الاختيار؟ < تزامن القرار مع حرب الجزائر والفترة العصيبة التي كانت تمر منها فرنسا آنذاك. لم تكن باريس وقتها المدينة الملائمة لكي يتربى ابننا فيها، وهو ما شجعني على الاستقرار في المغرب الذي كان يعيش وقتها على نشوة الحصول على استقلاله من فرنسا. فكرنا في بناء حياتنا معا من نقطة البداية في بلد زوجي.. - وكيف كان أول لقاء لك بالمغرب؟ < عند عبورنا مضيق جبل طارق، أحسست بالحماس وأنا على بعد أمتار من المغرب. كانت البواخر الرابطة بين الجزيرة الخضراء وطنجة تسير ببطء تماما مثل القطارات التي ظلت تعبر إسبانيا ولطالما نظر إليها الطلبة على أنها جحيم حقيقي وهم يستنشقون روائح السمك النتنة.. شاهدت طنجة التي غمرها الضباب وهي تلوح من بعيد في الأفق. بدت لي منازل مصبوغة بالأبيض ومئذنة مسجد منتصبة على تلة صغيرة. - هل أحسست بالغربة؟ < ليس تماما.. تجولنا بالمدينة وصادفنا ثلاث نساء محتجبات يسرن في الشاطئ وانتابتني الصدمة لمشاهدة نساء محتجبات في البحر، حاولت أن أجد جوابا للأمر وظل المشهد راسخا في ذهني وهو يحمل رمزية الحاجز الثقافي الذي سأصادفه مستقبلا.. اكتشفت الميناء والشرطة وشوارع تسير بها حشود من الناس بملابس بدت لي غريبة وهي تتحدث لهجة غير مألوفة لدي. وجدنا الرجال جالسين في المقاهي وكأنهم بانتظار شيء ما.. لم يكن ذلك ما تخيلته أبدا وبدا كل شيء غريبا. استمتعنا بمناظر الحقول الخضراء التي تذكر بالأندلس، ورغم أن المغرب حديث الحصول على الاستقلال، كنت تتخيل نفسك في أرض أوروبية. بين طنجة والدار البيضاء سنة 1957 كانت القرى أكثر أناقة من نظيرتها في جنوباسبانيا. - كانت تلك فترة حكومة عبد الله ابراهيم. كيف تصفين تلك المرحلة من تاريخ المغرب؟ < بعثت حكومة عبد الله ابراهيم ذات التوجهات اليسارية الأمل في نفوس رجال السياسة والمغاربة. امتد عمر الحكومة من 24 دجنبر 1958 إلى 20 ماي 1960.. كنت حينها في الثانية والعشرين من عمري، ولم أدرك أنه قد تم إصدار مدونة الأسرة. كنا نؤيد عبد الله إبراهيم واعتقدنا أنه قادر على تغيير الوضعية ووضع البلاد على السكة الصحيحة، وهو ما تجلى في ارتفاع نسبة التمدرس إلى 45 في المائة. في السياسة الخارجية، اختار الوزير الأول الانفتاح على دول العالم الثالث ودول عدم الانحياز، رغم أن ثلثي الأنشطة الاقتصادية للمغرب كانت في يد 220.000 فرنسي مقيم بالبلاد ظلوا دائما ينظرون إلى الحكومة على متمردة على المصالح الفرنسية، وغادرت البلاد 45 مليار دولار وسط حملة شرسة شنتها الصحافة الفرنسية التي وصفت البلاد بالفوضى..