مشكل الثقافة الموروثة: إذا نظرنا إلى الثقافة الموروثة، من زاوية التعريف الأنثروبولوجي، ألفيناها لا تستجيب لمعايير هذا التعريف. لنقارن واقع الثقافة العربية من زاوية الثقافة العربية الكلاسيكية بتعريف تايلور taylor المشهور: «الثقافة كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع». الثقافة، من هذا المنظور، هي ما يسميه ماركس «البنية الفوقية» أو ما يطلق عليه ماكس فيبر «عالم القيم»، في مقابل عالم الوقائع المادية. يركز التعريف الأنثربولوجي للثقافة على معيار التفاعل الاجتماعي الذي يتحكم في عملية الاكتساب الثقافي للفرد باعتباره عضوا في المجتمع، فهل ينطبق هذا المعيار على الثقافة العربية الكلاسيكية؟ لو رجعنا إلى هذه الثقافة، لوجدنا شرط التفاعل الاجتماعي لا يتوفر إلا في ثقافة عصر التدوين في القرن الثاني الهجري. أما ما عداها، فإنها ثقافة لا عضوية، لأنها غير متفاعلة مع محيطها الاجتماعي. إنها توحد المثقفين العرب، بصرف النظر عن الخصوصيات التي تميز بيئاتهم المحلية. وهذه الخصوصيات، هي الثقافة العضوية التي أهملت، وبقيت بدون تدوين. هذه خلاصة يؤكدها تنميط المثقفين في الفكر الكلاسيكي: الفقيه والمؤرخ الأديب والفيلسوف والمتصوف. ما يجمع بين هؤلاء هو تجاهل الواقع لفساده والتعلق بعالم مثالي، فالفقيه يتجاهل الواقع دفعا لليأس، لأنه يتطلع إلى عالم الخلافة الذي يتوحد فيه الواقع بالمثال، في موقف الفقيه واقعية، ولكنها واقعية تتأصل في طوباوية دفينة على حد تعبير العروي، (مفهوم الدولة ص :104)، أما المؤرخ الأديب، فإنه يتحدث عن العدل المثالي، لينبه السلطان إلى أن العدل أساس استمرار الحكم، لهذا لا نجد في كتب الآداب السلطانية تحليلا لواقع ملموس، وإنما نجد حديثا عن الحاكم المثالي الذي تتوحد في شخصه حكمة الفلسفة ومقاصد الشريعة، ولذلك تتحمل مؤلفات الأحكام السلطانية مسؤولية طوباوية التربية السياسية للفرد في المجتمع العربي، مسؤولية تعلقه بالنظام المثالي، وانصرافه عن العالم الواقعي. أما المتصوف والفيلسوف، فليس لهما سبيل للاحتجاج عن الفساد، إلا الرفض المطلق، كما سبقت الإشارة على ذلك الجدل الصوفي. هكذا نجد أن مختلف أنماط المثقفين في الثقافة العربية الكلاسيكية ينتهون جميعهم إلى الرفض السلبي والتعلق بطوبى الخلافة. لا يمكن فهم مثالية المثقفين العرب المعاصرين دون أخذ هذا المعطى في الاعتبار، إذ في تصورات الأحكام السلطانية تكمن الجذور التاريخية لظاهرة انفصال الثقافة العربية عن الواقع: «هذه حالة فصم بين الثقافة والمحيط الطبيعي والاجتماعي، عرفها التاريخ العربي القديم، ولم يغير منها شيئا التاريخ الحديث» (العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص 174). لذلك استمرت الطوباوية في الوجدان العربي المعاصر، يستوي في ذلك المثقف في ضوء السلفي والآخر الحداثي، التقليدي والعلماني والماركسي كلهم فروع لأصل واحد لأنهم ينطلقون من أرضية نفس الموقف المعرفي اللاواقعي، والمتعلق دوما بالمدينة الفاضلة التي لم يعرف التاريخ لها نظيرا. لذلك تصدى العروي لنقد هذا الموقف المعرفي كمدخل لنقد التصور التقليدي للتاريخ، ونقد الموقف العاطفي من الثقافة. كان من نتاج تشريح الموقف المعرفي الطوباوي، الوقوفُ على سلبيات العقل الموروث والاقتناع بضرورة القطيعة معه للانفصال عن الموروث الثقافي الذي أصبح عائقا في وجه كل تطور وتحديث: «لم يخطر ببالنا أن نتساءل بجد: أولا يكون ذلك العقل الموروث، العقل الذي نصوره بإطلاق ونعتز به، هو بالذات أصل الإحباط» (العروي، مفهوم العقل مقال في المفارقات، ص 357 358) لنقد مثالية المثقفين العرب، لا مناص من تحقيق قطيعة مع عقل المطلق، عقل الاسم المتعالي على التاريخ، لا عقل الفعل في التاريخ، لنلاحظ أن الفعل حتى على المستوى النحوي فرع على الاسم، لأن المصدر أصل المشتقات، والفرع لا يقوى قوة الأصل كما يقول النحاة، لذلك حال عقل الاسم دون الوصول إلى تصور إيجابي للطبيعة والإنسان: «يوجد حاجز هو الموروث في السلوك والوجدان»، (من ديوان السياسة، ص 41). هناك غشاوات موروثة تحجب النور عن عين المثقف، لذلك لم يستطع أن ينغمس في الطبيعة وينسى الذات، كما جاء في رواية اليتيم. تحليل هذه الغشاوات يستلزم تفكيك بناء النسق التاريخي كنموذج يمكننا من مقاربة الواقع. نمذجة العروي: انطلاقا من نقد الموقف المعرفي الطوباوي ونقد عقل الاسم، بنى العروي نموذجا يتيح إمكان تحليل الواقع الثقافي المعاصر. وفي إطار هذا النموذج، حلل التصورات التي كونها العرب المعاصرون عن أنفسهم وعن غيرهم وعن ماضيهم، كما حلل مفهومهم للعقل الكوني وبحثهم عن تعبير فني وأدبي مطابق لأوضاعهم. هذه التصورات، محاور إشكالية الإيديولوجية العربية المعاصرة المتمركزة على أربع دعائم: الذات، التاريخ، العقل الكوني، التعبير المطابق. هذه الدعائم عبرت عنها ثلاثة أنماط من المثقفين، أفرزتهم شروط التداخل بين المجتمع العربي والغرب: الشيخ، والليبرالي، وداعية التقنية. تتعاقب هذه الأنماط بتعاقب الدول، وهكذا يرتفع صوت الشيخ في الدولة الاستعمارية، ويعلو صوت الليبرالية في الدولة الليبرالية، وبعد يأس الشيخ وإخفاق الليبرالي إخفاق ثورة المعتزل، كما وقع لتوفيق الحكيم، يخلو الجو لداعية التقنية الذي يحاول تجاوز الوعي الليبرالي برفعه شعار التقنية في الدولة القومية، كما نادى بذلك سلامة موسى. إلا أن هذا الأخير سيكشف، أمام عناد الواقع، أنه ليس تقنيا حقيقيا، وأن تجاوزها بالفهم التجزيئي والانتقائي، من أبرز هذه التناقضات النظرة الأداتية إلى العلم الوضعي على الطبيعة لا على الذات، وبذلك تحتضن الدولة القومية منطقين متعارضين لا يمكن التوفيق بينهما: منطق العقل الوضعي لفهم الطبيعة، ومنطق الكشف والوجدان لفهم الذات، وهكذا سينتهي داعية التقنية بحكم نظرته التوفيقية إلى الاقتناع بسطحية دعواه، وسيشارك أخويه الشيخ والليبرالي في الشعور بالإحباط أمام معضلة التأخر والغياب عن العصر. إن لحظات الوعي الديني والليبرالي والتقني إجابات عن سؤال التحدي الذي طرحه الغرب. كل وعي يحدد الذات، انطلاقا مما وجد في الغرب، في لحظة سابقة، يدافع الشيخ عن هوية تستمد قوتها من الماضي. وينتقي السياسي ليبرالية القرن التاسع عشر، لترشح الاستبداد العربي. ويتمسك داعية التقنية بتصنيع يرأب الصدع بين الأنا واللاأنا، في أفق عقل كوني يلحق المتقدم بالمتأخر. هكذا نجد الإيديولوجيا العربية ترسم آفاق تدارك التأخر بالتمسك بالتصور التقليدي للتاريخ، وربطه بتأويل معين للغرب. في تصور التاريخ لجوء إلى الماضي لتعبئة الذات، وفي تصور العقل الكوني تساؤل عن المنهج العلمي لإنقاذ الذات. يتبع...