يشكو الرأي العام العربي من معظم حكامه، ليس لأسباب داخلية بحتة متصلة بإدارة الحكم وتكميم الأفواه وتزوير الانتخابات وانتشار الفساد.. إلخ، وإنما أيضا لأنهم يمثلون محميات غربية في بلدانهم ولا يردون على الإهانات التي تتعرض لها الأمة العربية منذ وقت طويل، لا بل يتصدون أحيانا للمقاومة التي ترغب في الرد على الإهانة باللحم الحي في ميدان القتال. بكلام آخر، نقول إن معظم الحكام العرب يدفعون ثمن علاقاتهم الوثيقة بالغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية التي ما انفكت، في كل العهود وفي كل الظروف، تحمي الكيان الصهيوني وتطلق يده في تدمير لبنان مرات عديدة وفي إهانة السلطة وسلب الأراضي الفلسطينية وإهانة الجامعة العربية التي قالت مرارا إنها سترد بسحب مبادرة السلام عن الطاولة إلا أنها لم تفعل بسبب الضغوط، الأمريكية بخاصة والغربية عموما. وهذه الضغوط كانت، وربما ستبقى إلى حين، أقوى وأهم بالنسبة إلى جامعتنا المعظمة من الرأي العام العربي وشعوره المتراكم بالذل وبالإحباط وانعدام الثقة في الجامعة ومعظم أعضائها. وإذا كان الترابط بين رفض معظم الحكام ورفض السياسات الغربية في العالم العربي وثيقا، فهذا يعني أن الانتفاضات المندلعة في بلاد العرب هذه الأيام لن تكتفي بتغيير حاكم خاضع لواشنطن أو للغرب والإتيان بحاكم آخر من «قبيلة الخضوع»، وبالتالي يظل الغرب هو المتبوع وتظل بلداننا وارثة للتبعية رغم تغيير الحكام وبطاناتهم. والراجح أن المصفقين في الغرب ل«ربيع» العالم العربي لا يقرون بهذه الحقيقة وتستهويهم المقارنات والقياس مع المركزية الأوربية، ويعتقدون أن ما يحدث عندنا لا بد أن يكون تابعا لما حدث في أوربا الشرقية بعد سقوط جدار برلين، ومادامت الأنظمة السوفياتية قد انهارت بعد الجدار فالعرب تأخروا في تهديم أنظمتهم للحاق بهذا الحدث التاريخي، وبالتالي التعبير عن الإيمان القاطع بدين «الديمقراطية» وبكتابها المقدس. وإن عم «ربيع العرب» وإيمانهم ب«الدين الجديد»، فهذا يعني أنهم صاروا على الصورة التي يحب الغرب أن يراها في عالمهم، ومعها لن يكونوا خطرين بل جديرين بالطاعة والرضوخ. وما يعزز هذا التصور أن الغرب طوى صفحة تدمير العراق وكأن شيئا لم يكن، وأن الولاياتالمتحدة التي ترغب في الرحيل عن بلاد الرافدين تعلم علم اليقين بأن الخراب الذي خلفته قد لا يستقر على الحالة الراهنة، وأن المسخرة الديمقراطية التي استقرت في هذا البلد الأساسي في المنظومة العربية لا تحمي أحدا فيه ولا تضمن مصيرا لأحد، مما يعني أن فصلا أو فصولا من العنف قد تلي رحيل المحتل الذي يدرك ما يفعله ولا يخجل من حمل حلفائه على الاحتراب حتى ينهاروا جميعا أو يسيطر طرف منهم على الآخرين ويفوز بتغطية المحتل وعطفه ومساعدته، علما بأن أحدا لا يستطيع التأكد من فعالية هذا السيناريو وأحدا لا يستطيع أن يضمن شيئا لواشنطن في العراق. يبقى أن رحيل المحتل، على الرغم من كل ما يترتب عنه، يظل الخيار الأفضل للعراقيين الأحرار وأصحاب الحق الحصري في تقرير مصيرهم. يفضي ما سبق إلى القول إن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تتعلم شيئا من تجربتها العراقية، فهي تتحدث يوميا عما يتوجب على هذا الحاكم أو ذاك أن يفعله «فورا»، لا بل تدخل في التفاصيل وأحيانا تصل إلى حد التنطع لتسمية الوزراء والمدراء والسواقين وكأن البلدان العربية مستباحة لها تستخدم فيها اللغة المباشرة: «على فلان أن يفعل كذا، وعلى علان أن يقول كذا، وعلى زيد أن يستقيل، وعلى عمرو أن يصلح شؤونه، وعلى هذا الحاكم أن يحترم الصحافة، وعلى ذاك أن يحترم النساء». أغلب الظن أن هذه اللغة المصوغة بفعل الأمر وأفعل التفضيل تسيء ليس فقط إلى المعنيين وإنما إلى واشنطن نفسها التي حاول أحمد شفيق، رئيس الوزراء المصري المعين، أن ينبهها إلى أن الدولة في بلاده معمرة منذ آلاف السنين في حين لا يزيد عمر الدولة الأمريكية على قرنين، وأن من الأفضل لها أن تكف عن إرسال «النصائح الأوامر» عبر البث المباشر. قد يفاجئ العرب المنتفضون واشنطن كما فوجئت في العراق وكما فوجئت في أفغانستان، وبالتالي قد يتبين للأمريكيين والصهاينة أنهم جزء لا يتجزأ من المأساة التي عاشها ويعيشها العالم العربي، وقد تأتي المفاجأة على حين غرة ودون أن تتوقعها مراكز أبحاثهم ودراساتهم التي لا تكف عن استشراف المستقبل وتحديد مصائر الأمم في غير الوجهة التي تقررها الأمم في لحظة ثورية أو خلال تمرد عام أو عصيان مدني. ما من شك في أن العرب المنتفضين هذه الأيام يصفون حسابهم مع حكامهم على طريقة «خيرنا منا وشرنا منا»، وهم يفعلون ذلك ليس من أجل الخبز وحده تماما، كما فعل العراقيون الذين لقنوا المحتل درسا قاسيا في عدم الخضوع والدفاع عن الكرامة الوطنية، وقد يعيد المنتفضون اليوم الكرة بطريقة غير مباشرة، إذ يشترطون في حكامهم الجدد صفة الكرامة قبل الخبز على غرار الشعار التونسي: «خبز وماء وعميل أمريكا لا».