ولي العهد يستقبل الرئيس الصيني    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال (بوريطة)    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نيويورك... مدينة «الدلال» الأمريكية
نشر في المساء يوم 06 - 02 - 2011

قضيت جزءا كبيرا من الأسبوع الماضي في «التفاحة الكبيرة»، أو كما تعرف نيويورك باسم الدلال، لتغطية بعض أشغال المنظمة الدولية، وفاجأتني سيطرة قضايا العرب
على أجندة هذه المؤسسة التي خلقت لتعنى بكل قضايا الإنسانية.
رغم كبرها وقلة أدب بعض سكانها، لا يمكنك إلا أن تحب مدينة نيويورك، لأنها تستحق بالفعل لقب عاصمة العالم. واستنادا إلى بعض إحصائيات المدينة، فإن مقاطعة «كوينز» تستضيف لوحدها مجموعات وعائلات تتحدث في بيوتها أكثر من مائة وتسعين لغة مختلفة, عدا الإنجليزية طبعا.
يمكن أن تزور العالم عن طريق ممثليه الشخصيين في تاكسيات نيويورك الصفراء، التي تبحر بين عماراتها الشاهقة بسائقين من مختلف اللغات والأديان والأحجام والأخلاق.
لا يوجد طبعا هذا العدد الهائل من اللغات والثقافات في مكان آخر من العالم سوى في بناية الأمم المتحدة في مقاطعة مانهاتن الغنية.
في البناية الضخمة المطلة على نهر الهادسون- التي تستفيد حاليا من جهود إعادة ترميم واسعة النطاق- تجد دبلوماسيين وصحفيين من جميع أنحاء العالم وباهتمامات عالمية أيضا.
قضيت جزءا كبيرا من الأسبوع الماضي في «التفاحة الكبيرة»، أو كما تعرف نيويورك باسم الدلال، لتغطية بعض أشغال المنظمة الدولية، وفاجأتني سيطرة قضايا العرب على أجندة هذه المؤسسة التي خلقت لتعنى بكل قضايا الإنسانية.
النهر الكبير
وعلى مدى أسبوع كامل لم يعكر اهتمام دبلوماسيي العالم وتركيزهم على قضايا العرب سوى قضية ساحل العاج بسبب عناد الرئيس العاجي السابق لوران باغبو الذي لم يتنح عن السلطة، فأفسد على العرب احتكارهم للأجندة الدولية.
في الكافتيريا شبه المهجورة المطلة على النهر الكبير قلت لزميلتي على وجبة الغداء «لو لم يكن العرب ومشاكلهم لكان بان كي مون يبيع المواد المهربة في مانهاتن».
ضحكت الزميلة الشقراء حتى دمعت عيناها الزرقاوان قبل أن تضيف وهي تلتقط أنفاسها: «أو ربما يبيع الضفادع المقلية في كوريا الجنوبية».
من السودان إلى لبنان ومن القضية الفلسطينية إلى الصحراء المغربية ظل دبلوماسيو العالم وصحافيو المنظمة الدولية يجرون بين الأروقة ويسمعون الإفادات الصحفية, في منتصف كل يوم, من مختلف مبعوثي الأمين العام ويسجلون ملاحظاتهم حول المشاكل الكبيرة في دفاترهم الصغيرة.
فيلق الصحافيين هنا يختلف كثيرا عن فيالق واشنطن التي تعمل على ضفاف نهر البوتوميك اختلاف المحلي بالدولي. الصحافيون المرابطون في البيت الأبيض, أو معظمهم على الأقل، يركزون على المحلي والصغير وحتى التافه من الأمور أحيانا، ربما لاعتقادهم بأن ما هو محلي أمريكيا فهو بالضرورة دولي بحكم اهتمامات الإمبراطورية.
هنا في نيويورك في البناية الزجاجية ينتقل الصحفي بسهولة من معارك الثامن والرابع عشر من «آذار» وباقي أيام السنة في لبنان إلى أنفاق غزة، ومن الأطراف المتقاتلة في دارفور إلى تورط موظفي الأمم المتحدة في نشر الكوليرا في هايتي.
لكن العمل الصحفي هنا، وإن كان يتطلب جهدا ذهنيا ومعرفة بجغرافية المشاكل العالمية، فإنه يربي الكسل في الجسم الصحفي، لأن كل شيء يقدم لك جاهزا كالوجبات السريعة.
لست بحاجة للخروج من البناية إطلاقا لتكتب عن أدق مشاكل العالم وجهود المنظمة الدولية أو عدمها, فمكبرات الصوت وشبكة التلفزة الداخلية تنقل إليك في مكتبك ما يقوله الأمين العام ومساعدوه وصغار السفراء وكبارهم أمام المايكروفونات المثبتة خارج مجلس الأمن الدولي.
المبعوث الشخصي للأمم المتحدة طمأننا عبر الشاشة الصغيرة متحدثا من الخرطوم عن السير العام للاستفتاء الذي مر في ظروف «طمأنت» الشمال نفسه للاعتراف بنتائجه.
ونحن نتبادل «التهنئة» بميلاد أحدث دولة إفريقية من رحم دولة عربية، عكر علينا الجو الاحتفالي صوت مندوبة الولايات المتحدة وهي تسلط لسانها الحاد على حكومة الخرطوم رغم تعاون حكومة البشير المنقطع النظير.
السفيرة سوزان رايس، المتحدرة من أصول إفريقية، تعتبر نفسها من أقدم الناشطين في موضوع السودان منذ كانت في وزارة خارجية بيل كلنيتون، وربما لن يطمئن قلبها إلا بخلق جمهورية دارفور المتحدة.
تطورات تونس فاجأت دبلوماسيي العالم وفي مقدمتهم السفير التونسي نفسه الذي انتقل في غضون ثلاثة أيام بين ولاء ثلاثة رؤساء جمهورية دون سابق إنذار.
لكن أوضاع لبنان المتسارعة تقلق موظفي المنظمة الدولية التي تنشر جنودها بإيعاز من واشنطن وتل أبيب على الحدود بين لبنان وإسرائيل للحفاظ على هدنة مستحيلة.
ذلك القلق كان واضحا في حديث مساعد الأمين العام للشؤون السياسية، الذي ردد قلق واشنطن من نشاط حزب الله، قبل أن يكرر كلامها حرفيا بشأن المحكمة الدولية وسعيها «لإنهاء حالة عدم العقاب في لبنان».
في اليوم الموالي، جاء أحد الزملاء بقائمة الدول التي تبنت مشروع قرار سيعرض على مجلس الأمن الدولي لإدانة النشاط الاستيطاني الإسرائيلي. القائمة العريضة من الدول المقترحة للقرار تريد على ما يبدو إحراج الولايات المتحدة لأنها ستحمل باراك أوباما على استخدام حق الفيتو ضد مواقفه الشخصية.
البيت الأبيض الذي دخل في مواجهة مهينة مع حكومة بينيامين ناتانياهو حول المستوطنات ووصفها ب»غير المساعدة» لا يريد طبعا إهانة حليفته في المنتظم الدولي. العارفون بخبايا العمل الدبلوماسي توقعوا أن تحول الجهود الأمريكية دون وصول المشروع إلى أنظار سفراء الكبار في العالم، إما بتمييع الأمريكيين لغة المشروع أو بالضغط على أصحابه.
لعبة الكبار وتنافسهم الدائم أفقد هذه البناية والروح المؤسسة لها الكثير من المصداقية والفعالية خلال الحرب الباردة، في حين أصبحت الآن ضحية الفوضى غير الخلاقة.
الأمين العام بان كي مون لا يتمتع -على خلاف معظم أسلافه- بالكثير من الجاذبية الشخصية، كما أنه لا يتمتع بشعبية كبيرة بين الكثيرين الذين يعتبرونه أكثر الأمناء استجابة لرغبات الهيمنة الأمريكية.
اليمين الأمريكي يحتفظ بكراهية عمياء لفكرة الأمم المتحدة أصلا، في حين يعتبرها اليمين الأمريكي المتطرف جزءا من مؤامرة كبرى لتشكيل حكومة دولية وحرمان الأمريكيين من دستورهم وحرياتهم.
أحد سفراء جورج بوش الابن كان قد «اقترح» هدم عشر طوابق من المنظمة، دون أن يؤثر ذلك على عمل المنظمة الدولية التي اعتبرها مرتعا للكلام الفارغ والمحسوبية وهدرا لأموال دافعي الضرائب الأمريكيين.
حينما تقضي فترة كافية داخل المبنى الضخم قد تشعر بأن اليمين الأمريكي، رغم تطرفه، ربما كان مصيبا جزئيا في مسألة هدر الوقت والأوراق والأموال في أمور لا طائل منها.
فضيحة أموال البترول العراقي في ما كان يعرف بالبترول مقابل الغذاء أكدت أن الموظفين «السامين» على المستوى الدولي ليسوا بمنأى عن الفساد بسبب عدم قدرتهم على مقاومة الإغراء.
تعيينات كبار المسؤولين ومناطق تعيينهم ومكافآت تلك التعيينات تحمل كلها على الاعتقاد بأن «الحكومة الدولية» لا تقل فسادا ومحسوبية عن معظم حكومات الأرض.
بيروقراطية المنظمة الدولية تبدو أقرب إلى بيروقراطريات دول العالم الثالث منها إلى مدينة نيويورك أو الولايات المتحدة التي تتخذ منها عنوانا لوجودها.
الموظف المسؤول عن إصدار البطاقات الصحفية، مثلا، لم «يظهر» للقيام بواجبه اليومي إلا بعد ساعتين كاملتين من الانتظار وباشر عمله بطريقة ميكانيكية دون أن ينبس بكلمة اعتذار.
سلوك الموظف الكبير في المكتب الصغير دفع أحد المنتظرين إلى التساؤل عما إذا كان الموظف السامي من أقرباء الأمين العام، بعد أن تبين أنه لا يأتي أبدا إلى مكتبه في الوقت المحدد.
إجراءات أمنية
الإجراءات الأمنية المشددة في الدخول، خاصة بالنسبة إلى غير «المقيمين» في البناية تؤكد أن كبار الدبلوماسيين في العالم يخافون بالفعل أن يصيبهم مكروه في قلب نيويورك.
أحد رجال الشرطة الدولية طلب بهستيريا واضحة من أحد الداخلين إلى المبنى التوقف عن الحديث في هاتفه النقال، وحينما تساءل المواطن المندهش أخبره الشرطي, بلهجة الواثق مما يقول, بأن «الهاتف النقال قد يتسبب في تفجير قنبلة إن كانت موجودة هنا».
من القرارات التي استغرب لها الكثير من الصحفيين، خاصة من المقيمين، هو قرار المسؤولين عن المنظمة الدولية تنظيم المفاوضات حول الصحراء المغربية في مانهاست في ضواحي نيويورك.
الفكرة، على ما يبدو، وراء القرار هي إجراء المفاوضات بعيدا عن أعين الصحافة، لكن الصحافيين يذهبون إلى مدخل المكان ويرابطون هناك مدة المحادثات التي تدوم عادة بين يومين أو ثلاثة، مما يفقد الفكرة فاعليتها.
كان من الأجدر، مثلا، عدم الإفصاح أصلا عن مكان المحادثات إن كان الهدف هو السرية التامة أو إجراؤها في مكان معلوم ومحدد ولو داخل غرف مغلقة على أن تنظم اللقاءات مع وسائل الإعلام في زمان ومكان يعرفه الجميع بعد انتهاء كل جولة.
طبعا، سرية المكان المعلن ليست المشكلة الوحيدة لهذه المفاوضات التي وصلت إلى مرحلة قريبة من العبث لتشابه حلقاتها، بما في ذلك مكان التقاء الإعلاميين في الهواء الطلق إلى «بيان» المبعوث الدولي، الذي لا يبدو أنه يغير من بيانه سوى أثناء انعقاد المفاوضات.
مع بعض مغاربة نيويورك
بقدر تنوع المدينة بثقافاتها ومطاعمها وسحنات سكانها، تتنوع مشارب واهتمامات ومجالات عمل مغاربة نيويورك، وبسبب كونها المدخل الجوي الأول للمغاربة فقد أصبحت من أوائل العناوين التي تبناها المهاجرون الأوائل إلى الولايات المتحدة.
في نيويورك مغاربة من كبار رجال الأعمال ومن كبار الفنانين والأساتذة الجامعيين والموظفين الكبار في المؤسسات المالية والمنظمات الدولية، كما فيها أيضا صغار الموظفين وعمال المطاعم وبائعو الممنوعات.
ولعل أقوى قاسم مشترك بين مغاربة نيويورك, وربما باقي مغاربة المهجر عموما, هو تعلقهم بالمغرب وتذمرهم من أداء دبلوماسيته.
في أحاديث ذات شجون حول أداء دبلوماسيتنا في ملف الصحراء كثرت الانتقادات والشكوى من جمودها وانغلاقها على كل هذه الكفاءات وفي جميع الميادين، تقريبا، وبكل لغات العالم.
أحد الخبراء الدوليين ذهب إلى أن خصوم المغرب ليسوا عباقرة، لكنهم أقوياء بسبب ضعف دبلوماسيتنا لأنها تساعدهم على استغلال نقاط ضعفها.
سفارتنا الدائمة لدى المنظمة الدولية لم تسلم من انتقادات لاذعة من قبيل المحسوبية ومحاربة الكفاءات الشابة، بل دفع بعضها إلى الرحيل إلى مواقع أوربية, وأحيانا أخرى إلى الاستقالة النهائية من العمل الدبلوماسي.
انعدام المبادرة وتراجع الخيال وممارسة الدبلوماسية الحقيقية، التي لا تكتفي بردود الأفعال الباردة المكتوبة بلغة الخشب، كانت في نظر بعض مغاربة نيويورك مسؤولة إلى حد كبير عن العثرات، خاصة الإعلامية منها في القضية الوطنية الأولى.
العودة إلى نهر البوتوميك
رحلة القطار «السريع» بين نيويورك وواشنطن تستغرق ثلاث ساعات, ويمكن أن تستغرق أقل من ذلك بكثير في أي قطار عادي في أوربا أو الصين أو اليابان.
الرحلة بالقطارات الأمريكية بدأت تشبه ما كنا نراه في الأفلام الهندية القديمة, عدا الزحام والأغاني طبعا.
صحيح أن الأمريكيين يتنقلون أكثر بالطائرات، لكن ترهل قطاراتهم دليل إضافي على بداية ترهل إمبراطوريتهم، ولم يبق من أيام العز سوى بعض محطات القطار رائعة المعمار التي مازالت واقفة تشهد على أيام الريادة الغابرة.
البنايات المهجورة أو الآيلة للسقوط المغطاة جدرانها برسوم «الغرافيتي» على طول الرحلة التي تقطع أربع ولايات قبل الوصول إلى العاصمة دليل آخر على أن الأمريكيين ولوا بظهورهم عن هذه الصناعة منذ زمن طويل.
الرحلة تنقلك أيضا -على قصرها النسبي -من عالم إلى آخر من مدينة كبيرة وباسمة إلى أخرى عابسة وإدارية وتحمل نفسها محمل الجد أكثر من اللازم.
في واشنطن، وعلى ضفاف نهر «البوتوميك» كان الموعد مع «الاحتفال» السنوي للخطاب عن حالة الاتحاد الذي يلقيه الرئيس الأمريكي سنويا.
الخطاب، الذي دشن به باراك أوباما عامه الثالث في سدة الحكم اتخذ صبغة خاصة، سواء على مستوى الشكل أو المضمون.
لكن الملفت هذا العام كان بالتأكيد الإجراءات الأمنية الغريبة التي اتخذت في شارع بنسلفانيا، حيث يوجد كل من البيت الأبيض ومقر الكونغرس مكان الخطاب والذي يعد من أكثر شوارع العالم أمنا.
تاكسي باكستاني
لكن الأمريكيين يميلون هذه الأيام إلى المبالغة، كما أبلغني سائق التاكسي الباكستاني الذي أخذني إلى مقر الكابيتول، حيث اندهش من عدد سيارات الشرطة مختلفة الأحجام، بما فيها شبه العسكرية التي أغلقت مدارا واسعا حول المقر التشريعي.
المشرعون الأمريكيون جاؤوا الليلة للاستماع إلى خطاب الرئيس، بعد أن وضعوا شارات بيضاء على صدورهم حدادا على ضحايا المجزرة التي نفذها يميني متعصب وقتل فيها ستة أشخاص، وكاد يقتل فيها عضوا من الكونغرس في ولاية أريزوزنا.
لكن المجلس التشريعي نفسه لا يستطيع الاقتراب من تقنين شراء وتوزيع الأسلحة خوفا من لوبي الأسلحة القوي، وإن كان يملك «شجاعة» نادرة بمنعه المدنيين من حمل السلاح إلى مقر البرلمان نفسه خوفا على المشرعين على ما يبدو.
عادة ما يجلس الديمقراطيون في ناحية والجمهوريون في ناحية أخرى، مما يعطي مصوري التلفزيون لقطة مثيرة حينما تقوم جهة بالتصفيق الحماسي، بينما يقعد الجالسون في الجهة الأخرى على أيديهم واجمين.
هذا العام قرر المشرعون «الأجلاء»، واحتراما لمعاناة زميلتهم التي تصارع الموت، أن يختلطوا في الجلوس لإظهار بعض التضامن، وأيضا للتقليل من وقع اتهامهم بتسميم جو النقاش العام الذي شجع على عملية إطلاق النار في المقام الأول.
بين ثورة الياسمين والفل والبقية تأتي
تغطية خطاب الاتحاد أصبحت طقسا سنويا من طقوس السياسة والإعلام في أمريكا، تسخر له الإمكانات التقنية الضخمة وتجند له جيوش الخبراء والمحللين ليدلوا بتوقعاتهم قبل الخطاب وبعده، دون أن يمتلك الحدث أهمية إعلامية حقيقية.
سيطرة السياسة الداخلية على الخطاب لم تمنع الرئيس الأمريكي من كشف النقاب عن أقوى موقف أمريكي من ثورة تونس حتى الآن حينما خلص أوباما إلى أن «إرادة الشعب كانت أقوى من تصميم الدكتاتور»، قبل أن يعلن تأييد بلاده ل «كل المتطلعين للديموقراطية».
وقبل أن يفتر تصفيق المشرعين الحماسي كان المنتفضون على نظام الرئيس المصري حسني مبارك يضعون ذلك التعهد على المحك السياسي والأخلاقي والذي أخفقت فيه واشنطن مرة أخرى.
على خلاف تونس، وربما بسبب تونس، حظيت ثورة الفل بتغطية إعلامية مكثفة لم تلق منها ثورة الياسمين إلا النزر القليل جدا.
المحطات الإخبارية الثلاث واصلت تغطيتها لشوارع القاهرة والإسكندرية دون توقف، تقريبا، كما تصدرت صور الأحداث الصفحات الرئيسية لكبريات الصحف الأمريكية.
قالت لي زميلة أمريكية مبتدئة: «لم أكن أعرف أن لمصر هذه الأهمية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية من قبل».
دكتاتورية مبارك
مصدر استغراب الصحفية الشابة هو أن مصر وأخبارها كانت شبه غائبة عن اهتمام الإعلام الأمريكي منذ زخم كامبد ديفيد، باستثناء افتتاحية هنا أو مقال هناك ينتقد دكتاتورية مبارك، خاصة في الواشنطن بوست.
أما في التلفزيون، فقد غابت مصر نهائيا إلى أن وقع حادث الحافلة الذي مات فيه مؤخرا، تسعة من السياح الأمريكيين، مما يحمل على الاندهاش من الانتقال من تجاهل شبه كامل إلى القصة الإخبارية الرئيسية على مدى عدة أيام.
الحكومة الأمريكية والإعلام الأمريكي أكدا معا أنهما لا يفهمان منطقة الشرق الأوسط رغم كون المنطقة الأكثر حساسية في الاستراتجية الأمريكية، أم أنهما معا لا يريدان التزحزح عن الصور النمطية السهلة، التي لا ترى بديلا للدكتاتور في الشرق الأوسط سوى الملتحين المتطرفين والمعادين لأمريكا وإسرائيل.
الوزيرة هيلاري كلينتون أثارت غضب العديد من المصريين الأمريكيين ومن المراقبين المطلعين على شؤون المنطقة حينما دعت «الطرفين إلى ضبط النفس» في استنساخ جديد لموقفها من ثورة تونس حينما أعلنت أنها «لا تأخذ موقفا مؤيدا لأي جانب».
هذه المساواة الأخلاقية بين جيش من الشرطة يضرب بالهراوات ويطلق القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والحي وجماعات من الشبان تتطلع إلى المزيد من الحرية والكرامة وتغيير على هرم السلطة أثار حنق المؤيدين لحق العرب في الالتحاق بموكب الحرية.
بعض «المحللين» الأمريكيين ذهبوا إلى حد تشبيه وضع باراك أوباما بوضعية جيمي كارتر إزاء ثورة الإيرانيين الخمينية، وأن أي خطأ قد يرتكبه البيت الأبيض قد يؤدي إلى عداوة قد تدوم أكثر من جيل مع الشعب المصري كما حدث مع الإيرانيين.
فات هؤلاء المحللين طبعا أن الفارق هائل بين الوضعيتين، بل إن نقاط التشابه شبه منعدمة بين التجربتين الإيرانية والمصرية، من غياب الزعيم المذهبي في مصر إلى غياب عنصر العداء لأمريكا لدى جيل «الفيس بوك» المصري. لكن مواقف واشنطن المترددة والتقاط الشبان في «ميدان التحرير» للقنابل المسيلة للدموع المصنوعة في أمريكا قد تغير الموقف من واشنطن في المستقبل.
التركيز الإعلامي المرئي الأمريكي على الأحداث في مصر جاء جزئيا بسبب عدم انشغال أمريكا بأي قصة إخبارية، وثانيا لأنها شعرت بأن الفضائيات العربية كانت أبعد نظرا في تغطيتها لأحداث تونس، وثالثا بسبب قلق الإسرائيليين.
الإسرائيليون الذين فوجئوا بالمنطقة تشتعل من حولهم وتسرق منهم شرف احتكار الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط نقلوا ذلك الخوف إلى حلفائهم الأمريكيين، لأن في مصر«بعبعا» اسمه «الإخوان المسلمون».
بعض المعلقين المعروفين بصهيونيتهم أو تعاطفهم مع الطرح الصهيوني لم يستطيعوا إخفاء ذلك القلق، لأن الرئيس مبارك كان صديقا وفيا للولايات المتحدة ومتفهما كبيرا لأصدقائه الإسرائيليين، سواء في العلاقة مع حماس أو استقبال الساسة الإسرائيليين في ذروة استعدائهم للعرب. بين دور الوسيط الضروري في ما كان يعرف بالسلام وبين الفلسطينيين أنفسهم، فضلا عن التعاون التقليدي في مكافحة الإرهاب، برر نظام الرئيس مبارك استمرار أهميته للدبلوماسية الأمريكية التي كانت تعرف لكنها تغاضت عن زلاته.


عندما تبنى بوش نظرية القمع يؤدي إلى التطرف
ظهرت نظرية لم تعمر طويلا بعيد الحادي عشر من شتنبر مفادها أن التطرف الإسلامي الذي يشكل خطرا على أمريكا ينبع في جزء كبير منه من أنظمة القمع العربية التي لا تعطي متنفسا لشرائح واسعة من شعوبها للتعبير عن مواقفها بحرية في الشارع العام.
هذه النظرية تبناها علنا الرئيس السابق جورج بوش نفسه ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس، اللذين دخلا في مواجهة مباشرة مع القاهرة في وقت مرت فيه علاقة البلدين في واحدة من أسوأ مراحلها.
لكن إدارة بوش سرعان ما تخلت عن أفكارها «الثورية» وعادت لاحتضان الدكتاتوريات مقابل الاستقرار ومكافحة الإرهاب.
لكن عودة الوعي الشقي لحكومة أوباما بعد ترددها الأولي دفعها في نهاية المطاف إلى التلويح بورقة المساعدات حتى لا تبدو في الموقف الخطأ مع التاريخ أو قبل السقوط في تناقض مع الشعارات التي رفعها أوباما نفسه وفي القاهرة نفسها.
واضح أن على واشنطن أن تستعد هذا العام لردود فعل واضحة لأن السيناريو مرشح للتكرار، كما عليها أن تدرك أن أصدقاءها لا يمكن أن يعمروا إلى الأبد.
سعد الدين إبراهيم، المعارض المصري المخضرم، الذي بدت عليه آثار السجن ثلاث مرات، في مؤتمر صحفي عقده مصريون أمريكيون في نادي الصحافة القومي لاحظ قائلا: «إن مبارك حكم لثالث أطول فترة في تاريخ مصر منذ الفرعوني رمسيس الثاني الذي حكم حوالي أربعين عاما. وأضاف المعارض المصري أن مبارك يأتي بعد رمسيس ومحمد علي، لكن إذا ترك في منصبه فقد يحطم الرقم القياسي. واستدل إبراهيم على ذلك بالقول إن «الرئيس مبارك تعهد بأن يحكم إلى آخر رمق من حياته، كما أنه يتحدر من أسرة تعمر طويلا، إذ مات أبوه وهو في الثانية والتسعين من العمر، في حين لم يتجاوز حسني مبارك الثانية والثمانين» قبل أن يصيح أحد من الحضور»إنه مازال طفلا»!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.