حديث وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون عن الخطر الذي قد يهدد حياة عملاء الأمن القومي الأمريكي من جنود وجواسيس ودبلوماسيين بسبب تسريبات ويكيليكس حديث مبالغ فيه لأنه لم تتأكد حتى الآن إصابة أي منهم حتى بالزكام منذ بداية التسريبات. الأمر الأهم الذي يطمئن على سلامة مبعوثي واشنطن إلى العالم أن القصاصات التي بعثوها إلى واشنطن تسبب الحرج أكثر من الغضب –باستثناء الحالة التركية- وأن كل ما يفعله الدبلوماسيون الأمريكيون على ما يبدو هو دور «طيابات الحمام» حسب التعبير المتداول في المدن المغربية القديمة. لكن الكمية الضخمة من النميمة التي أنفقت عليها الإمبراطورية مليارات الدولارات في أكثر من مائتين وسبعين بعثة دبلوماسية عبر العالم ساهمت في اهتزاز صورتها والتأكيد على ضبابية أهدافها وعدم ثقتها في أحد، فضلا عن قدر زائد من الاستعلاء والغرور. واستنادا إلى مقال في «فاينانشل تايمز» البريطانية، فإن قلق الوزيرة الأمريكية في غير محله لأن الخوف الحقيقي يكمن في ثقافة السرية في الحكومة الأمريكية التي خرجت عن السيطرة. وحسب كاتب المقال، فإن النفاق الذي بدا واضحا في معظم الوثائق المسربة أمر مألوف في الدبلوماسية من حلفاء يغتابون بعضهم بعضا أو أعداء يتشحون بلباس الأصدقاء، وأن السر في الحفاظ على الأسرار هو تقليص عددها وتقليص عدد المسموح لهم بالاطلاع عليها. «دير شبيغل» الألمانية، التي كانت من بين خمس مطبوعات دولية حصلت على نسخ من مائتين وخمسين ألف وثيقة للخارجية الأمريكية تعود إلى عام 1966، كتبت في تقديمها للوثائق «لم يحصل أبدا في التاريخ أن ضاع من قوة عظمى هذا العدد الهائل من المعلومات الحساسة، التي تفسر الأسس التي تقوم عليها الدبلوماسية الأمريكية». الأمريكيون العاديون تعاملوا باستخفاف وربما بسخرية مع بعض المواقف التي صورتها الوثائق بشكل دقيق، لكنهم صدموا من طريقة عمل دبلوماسييهم وطريقة إنفاقهم وقتهم وأموال دافعي الضرائب. وقد صدموا أكثر من السرية المبالغ فيها، التي أصبحت المقياس والقاعدة في الأداء الحكومي. الأمريكيون الذين صدقوا وعود المرشح باراك أوباما بحكومة شفافة وقوانين توضع على الأنترنت قبل المصادقة عليها تخلى عن كل وعوده ووضع آلات مسح ضوئية في المطارات لتصوير عوراتهم، في حين تتستر حكومته كسابقتها على صغيرة وكبيرة من روتينها اليومي قبل أن تظهر تلك الأسرار دون رغبته على الأنترنت. برادلي مانينغ الجندي الأمريكي القابع حاليا في زنزانة انفرادية في قاعدة عسكرية في فرجينيا، والذي يعتقد أنه المسؤول عن أكبر تسريب للوثائق السرية في تاريخ الجمهورية، يبدو أنه هو الآخر فقد الثقة في أن بلاده «قوة خير في العالم» كما يحلو للساسة الأمريكيين تكراره بمناسبة أو بدونها. في أفضل تحقيق كتب عن حياته حتى الآن نعرف أن هذا الشاب الذي كان يعاني من مشاكل شخصية مختلفة، بما في ذلك ميوله الجنسية الشاذة التي كانت موضوع تندر وسخرية من زملائه، كان يشعر أيضا ببعض الريبة من أهداف بلاده الحقيقية في كل من العراق وأفغانستان. ويحكي مانينغ عبر الأنترنت لأحد أصدقائه على الشبكة العنكبوتية عن حادث سيغير رأيه بشكل جذري، وربما كان القشة التي دفعته لنشر غسيل أمريكا الدبلوماسي الوسخ. حكى مانينغ الجالس أمام شاشة الكمبيوتر في قاعدة شرق بغداد لصديقه في الجزء الآخر من العالم في مدينة سان فرانسيسكو عن أمر تلقاه من قائده المباشر للتحقيق مع خمسة عشر معتقلا عراقيا كتبوا عريضة «معادية للعراق» وبعد انتهاء التحقيق توصل مانينغ أن الوثيقة لا تتعدى كونها احتجاجا على الفساد الضارب أطنابه في الحكومة العراقية. وحينما ذهب الرقيب الشاب إلى قائده العسكري المباشر بنتائج التحقيق، نهره قائده قائلا: «عليك بالتزام الصمت وحاول أن تساعدنا لإيجاد أفضل السبل لمساعدة جنودنا على إلقاء القبض على المزيد من المعتقلين». بعد هذا الحديث مع قائده كتب مانينغ المصدوم إلى صديقه عبر الأنترنت «لم أعد أصدق نظرية الطيبين ضد الأشرار بعد اليوم. ليس هناك سوى مجموعة من الدول تتصرف على أساس المصلحة الذاتية». بعد الحادث بأيام توصل صديق مانينغ بهذا البريد الالكتروني «دعني أسالك سؤالا افتراضيا.. إذا كانت لديك الحرية المطلقة للاطلاع على شبكة واسعة النطاق من المعلومات السرية تغطي من ثمانية إلى تسعة أشهر واطلعت من خلالها على أشياء سيئة ربما صادمة، وهي أمور يطلع عليها عدد كبير من الناس وليست مخبأة في قاعة مظلمة في واشنطن... ماذا عساك فاعل؟». بالطبع نعرف الآن أو نعتقد ما فعله مانينغ بفضحه أشياء وأشخاصا ظهروا بالفعل بشكل قبيح وصادم. وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون ظهرت في الوثائق وهي تنتهك القانون بأدلة موقعة بخط يدها حينما طالبت جواسيسها – عفوا دبلوماسييها- بجمع معلومات شخصية عن أمين عام الأممالمتحدة وكبار موظفي وسفراء المنظمة الدولية. الوزيرة تريد معرفة كل شيء، بما في ذلك أرقام بطاقاتهم الائتمانية بل مواد الحمض النووي أيضا، مما دفع كاتبة يسارية تسخر من الوزيرة وتتساءل إذا ما كنت ترغب السيدة كلينتون في الحصول على فرشاة أسنان بان كي مون. الزعماء العرب ظهروا في الفوج الأول من التسريبات وبشكل انتقائي كديكتاتوريين لن يصلح حال العباد قبل رحيلهم كما جاء في قصاصة من تونس العاصمة، أو كذابين على شعوبهم كما أخبرنا السفير الأمريكي في صنعاء، أو منافقين بشأن إيران كما أخبرتنا قصاصات الكثير من العواصم العربية. لا نعرف طبعا ما كان يقوله دبلوماسيو فترة الحرب الباردة، لكن أغلب الظن أنهم كانوا أكثر مهنية من زملائهم اليوم لأن طبيعة الحرب سهلت عليهم المأمورية في التفريق بين الحلفاء والخصوم على أسس إيديولوجية واضحة، الأمر الذي افتقدته الإمبراطورية وافتقده أيضا الجيل الجديد من الدبلوماسيين فأصبح الجميع خصما إلى أن يثبت العكس. مقارنة التسريبات بأحداث الحادي عشر من شتنبر، كما جاء على لسان وزير الخارجية الإيطالي، قد تكون ميلا للمبالغة والإثارة في بعض النواحي، لكن هناك بعض نقاط الشبه على الأقل في ردود فعل واشنطن. عجز أمريكا عن حماية مقر وزارتها في الدفاع في قلب عاصمتها يوم الحادي عشر من شتنبر لا يضاهيه سوى عجزها عن الاحتفاظ وتأمين ملايين القصاصات السرية من مراهق استطاع أن يحملها على قرص مدمج وهو يمضغ العلك في صحراء العراق. كما أن الدولة التي اخترعت الأنترنت لم تستطع، رغم كل الاستعدادات لحرب الإلكترونية مع الصين أو روسيا، أن توقف تدفق القصاصات رغم محاولاتها المتكررة، ورغم حملها موقع «أمازون» على إلغاء «استضافته» لموقع ويكيليكس الشرير. وكما شنت الإمبراطورية حربا على أفغانستان بحثا عن أسامة بن دلان بدأت واشنطن في شن حرب أخرى على جوليان أسانج مؤسس الموقع، الذي اختفى عن الأنظار في إحدى مغارات أوروبا، كما اختفى سلفه أسامة بن لادن في مغارات أفغانستان وباكستان بعد أن سبقه إلى قائمة العدو رقم واحد للإمبراطورية. نقطة التشابه الأكثر قتامة هي تركيز معظم وسائل الإعلام الأمريكية والمسؤولين الأمريكيين في تصريحاتهم العامة على الأقل على الشكل متجاهلين المضمون باستثناء موضوع إيران طبعا. منذ الحادي عشر من شتنبر فضلت النخبة الأمريكية تجاهل الأسباب الحقيقية لمشاكل أمريكا في العالم الإسلامي، وفضلت التفسيرات السريعة والمريحة كعدائهم «لحريتنا وطريقة عيشنا وديموقراطيتنا» واعتبر كل من اقترب من السياسة الخارجية الأمريكية وكأنه يبرر الإرهاب. في أول رد فعل علني لها على التسريبات، رفضت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون كباقي المسؤولين التعليق بشكل مباشر على مضامين الوثائق وأصرت على وصفها «بالوثائق المزعومة»، لكنها لم تجد حرجا في الحديث عن إيران وعن «الإجماع» الذي يتسم به الموقف الدولي إزاء الخطر الإيراني. باقي التغطية الإعلامية الأمريكية ركزت على مؤسس الموقع وشيطنته إلى أبعد الحدود، كما ركز النقاش على كيفية الاقتصاص منه إما عن طريق السويد في تهم بالاغتصاب في حق سيدتين في تهم أعرب أحد كبار مراسلي «نويورك تايمز» عن شكه العميق في مصداقيتها، وربما علينا الانتظار لاحقا لقراءة ما كتبه السفير الأمريكي في السويد حاليا عن ترتيبات المتابعة القانونية. لكن الخلاصة الصادمة، خاصة لدى الفئات اليسارية التي راهنت على باراك أوباما وصدقت كلامه الانتخابي حول الانفتاح على العالم وتصحيح صورة أمريكا في العالم الإسلامي والحديث إلى خصوم أمريكا من كوبا إلى كوريا الشمالية إلى إيران، هي أن باراك أوباما هو استمرارية مؤلمة لسياسات سلفه، سواء داخليا أو خارجيا، وإن استبدل الكلام العدواني بالكلام الشاعري. الموجة الأولى من التسريبات- وهي بضع مئات من أكثر من ربع مليون وثيقة- ركزت على إيران وبدا واضحا لهذه الفئة من الأمريكيين التي بدأت تفقد الأمل في أوباما قبل التسريبات أن الحكومة الأمريكية تبحث عن مبررات لشن حرب على إيران. وسائل الإعلام اليمينة، وفي مقدمتها محطة فوكس وزميلاتها في إسرائيل والحكومة الإسرائيلية نفسها، تلقفت جميعا موضوع إيران للتأكيد وإعادة التأكيد على أن العالم كله يدرك خطر البرنامج النووي الإيراني إن سرا أو علنا. هذه الجماعات تتحرك بدافع واحد ينبع من تصديقها واحدة من أكبر أكاذيب القرن الجديد أطلقها الساسة الإسرائيليون وصدقوها وحاولوا إقناع بقية العالم بتصديقها، ومفادها أن إسرائيل - التي تملك مئات من الرؤوس النووية الجاهزة للإطلاق في أي لحظة- تواجه «خطرا وجوديا» من قنبلة إيرانية وهمية لم تصنع بعد. الإسرائيليون نجحوا في تحويل هذه القضية إلى واحدة من أبرز القضايا الانتخابية الداخلية والموضوع الأول على أجندة محادثاتهم الخارجية مع جميع مخاطبيهم، وفي مقدمتهم طبعا الولايات المتحدة. الرئيس جورج بوش وفي مذكراته المثيرة للجدل أعرب عن «الندم» لأنه ترك هذه المشكلة لخلفه «قبل أن يحلها»، في حين تلقفها خلفه وجعلها من أولوياته ونجح فيما لم ينجح سلفه حينما شدد العقوبات على طهران بعد رشوة كل من الصين وروسيا. لكن المشكلة تبقى في الموقف العربي الذي يستعصي فهمه على العقل السليم اللهم إذا كان هؤلاء الزعماء يرون ما لا تراه شعوبهم أو يتلقون بدورهم قصاصات من سفرائهم الأكفاء إن وجدوا في العاصمة الإيرانية. في شهر غشت الماضي فقط أجرى معهد بروكينغ للأبحاث السياسية، الذي يتخذ من واشنطن مقرا له، استطلاعا للرأي العام في سبع من الدول العربية، بما فيها السعودية ومصر والإمارات، فوجد أن 88 في المائة ممن استطلعت آراؤهم يعتقدون أن إسرائيل تشكل الخطر الأعظم، وفي دول أخرى اختار 77 في المائة الولايات المتحدة نفسها كأعظم خطر يهددهم، في حين لم يختر إيران سوى 10 في المائة ممن استطلعت آراؤهم. وفي الاستطلاع نفسه أعرب 57 في المائة من العرب عن اعتقادهم بأن إيران تطور بالفعل أسلحة نووية – على خلاف الادعاء الإيراني العلني- ومع ذلك أعرب 77 في المائة عن حق إيران في تطوير برنامج نووي، بل إن 57 في المائة ممن استطلعت آراؤهم أعربوا عن الاعتقاد بأن منطقة الشرق الأوسط ستكون أفضل حالا إذا امتلكت إيران بالفعل أسلحة نووية. هذه الأرقام يدعمها المنطق والنظرة الاستراتيجية للمنطقة ومنطق توازن القوى حتى في جهود البحث عن السلام في الشرق الأوسط لأن الموقف التفاوضي الذي لاتدعمه قوة معنوية أو مادية يبقى موقفا ضعيفا تماما كما هو الشأن بالنسبة للموقف التفاوضي الفلسطيني والعربي عموما. يوجد إجماع في الشرق والغرب على السواء أن رعب التوازن النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ووريثته روسيا كان السبب الرئيسي في عدم اندلاع حرب عالمية ثالثة، وهو الهدف الذي أخفقت فيه عصبة الأمم في فترة ما بعد الحربين على الرغم من «حسن النوايا». لكن منطق الزعامات العربية، بالإضافة إلى تراجعه الأخلاقي في استعارته مبدأ التقية من المذهب الشيعي، يفتقر إلى منطق أصلا في حض الأمريكيين على استهداف إيران في وقت يتبادلون الزيارات وبرقيات التهنئة في الأعياد الدينية. في «كيبل» من السفير الأمريكي في القاهرة إلى وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون يحضرها فيه لأول لقاء لها مع نظيرها المصري أحمد أبو الغيط يصف السفير الأمريكي رئيس الدبلوماسية المصرية بالذكاء، ولكن بالثرثرة أيضا ومعارضته الدخول في أي نقاش يتعلق بإخفاقات مصر. كما نبه السفير الأمريكي رئيسته في واشنطن بأن الوزير المصري قد يحاول الاطلاع على نوايانا إزاء إيران. وأضاف السفير الأمريكي قائلا: «أن الرئيس مبارك أبلغ السيناتور ميتشل خلال زيارته الأخيرة للقاهرة بأنه لا يعارض حديثنا مع إيران مادمنا لن نصدق كلمة واحدة يقولونها». الوثائق أظهرت أيضا أن العرب - أو معظم قادتهم على الأقل- كانوا خائفين من تقارب أمريكي إيراني بعيد فوز أوباما على ضوء تصريحاته الانتخابية لأن أي تقارب سيكون على حسابهم تماما كما كان الوضع أيام الشاه، مما يؤكد أن العرب كالأمريكيين هذه الأيام لا يعرفون من يعادون ومن يصادقون. وباستثناء الموقف الإماراتي الذي قد يبرر بسبب النزاع حول الجزر الثلاث التي تحتلها إيران يبدو أن مواقف باقي الدول العربية مبني على أسباب موغلة في التخلف، أي العداء لإيران بسبب مذهبها المختلف- وكأن إيديولوجية الليكود الحاكم في إسرائيل أقرب إلى ميولنا من المذهب الشييعي- أو خوفا من «جيوب» الشيعة من مواطني العديد من الدول العربية المحيطة بإيران وفي لبنان. غياب العراق كدولة محتلة ومدمرة وخارجة على المدى القريب والمتوسط من ميزان القوى بعد أن قدمها الأمريكيون «هدية لإيران على طبق من ذهب» كما نقلت إحدى الوثائق عن العاهل السعودي شجع قادما جديدا – قديما للمنطقة في شخص حزب العدالة والتنمية التركي، لكن قدومه يخيف أيضا بعض العرب ويخيف أكثر الولايات المتحدة، وهذا ما يفسر أن أكبر كمية من الوثائق الأمريكية خرجت من السفارة الأمريكية في أنقرة. قضية القنابل العنقودية التي وردت في وثائق ويكيليكس وحظيت باهتمام إعلامي ضئيل للغاية أكبر دليل ليس على النفاق، بل على الإفلاس الأخلاقي للإمبراطورية، التي تعتبر نفسها «الدولة الضرورية» للمجتمع الإنساني. الوثائق أظهرت أن الولايات المتحدة التي رفضت التوقيع على معاهدة دولية تحظر استعمالها حاولت الالتفاف على المنع فوق التراب البريطاني، بتواطؤ مع وزير الخارجية العمالي ديفيد ميليباند، للسماح لواشنطن بانتهاك معاهدة وقعت عليها بريطانيا ونشر الأسلحة المحظورة في القواعد البريطانية. القنابل العنقودية من أخطر الأسلحة ضد المدنيين وتواصل قتلها حتى بعد انتهاء الحروب بسنوات طويلة كما هو الشأن في فيتنام وجنوب لبنان حيث تفتك بالأطفال الذين يلعبون بالقنابل الصغيرة التي لا تنفجر إلا بعد لمسها بعد مدة طويلة من إسقاطها. الوثائق كشفت النقاب أيضا عن المشكلة التي واجهت الولايات المتحدة في أفغانستان بعد أن «تسرعت» الحكومة الأفغانية في التوقيع على المعاهدة في دجنبر من عام 2008 دون استشارة أولياء الأمر في واشنطن، على الرغم من «الضمانات» التي قدمها الرئيس حامد كارزاي بعدم التصديق على المعاهدة. واشنطن قررت حسب وثائق ويكيليكس السعي «لإقناع» الحكومة الأفغانية بأن من الممكن قانونيا للقوات الأمريكية أن تقتل المواطنين الأفغان بالقنابل العنقودية فوق التراب الأفغاني دون أن تنتهك القوات الأمريكية القانون مادامت حكومة كارزاي لن تستخدم القنابل بنفسها!. الدبلوماسيون الأمريكيون في كابل نصحوا باتخاذ مقاربة «هادئة» لمعالجة المشكلة وربما بموظفين أقل من مستوى الوزراء «بسبب الحساسية المحيطة بالموضوع في أفغانستان إزاء القنابل العنقودية والقصف الجوي بشكل عام». في الجزء الذي كشفته صحيفة «الغارديان» البريطانية نطلع أيضا على «المواجهة» بين الحليفين التقليديين حول نشاط أمريكي مريب فوق الأراضي اللبنانية كانت الطائرات الأمريكية تتجسس خلاله على حزب الله لفائدة إسرائي، حسب اعتقاد الصحيفة البريطانية، لكن الوزراء في الحكومة البريطانية-على عكس نظرائهم الأمريكيين- كانوا يودون الاطلاع على نشاط الأمريكيين. كان الرأي العام البريطاني يغلي بمعارضته للحرب في العراق ويشعر بالقلق من الرحلات الجوية السرية لوكالة الاستخبارات المركزية، التي كانت تستخدم بعض المطارات البريطانية في رحلات التعذيب والاختفاء. وفي عام 2008 اتخذت المواجهة مرحلة من الحدة لم يسمع بها أحد طبعا خلال تلك الأيام بسبب الابتسامات العلنية- ورفضت واشنطن قلق لندن بشأن التعذيب جملة وتفصيلا لدرجة حملت مسؤولا كبيرا في السفارة الأمريكية في لندن للقول «لا يمكننا في إطار محاربة الإرهاب وبسبب خشيتنا من احتمالات انتهاك حقوق الإنسان أن نترك الإرهاب ينتشر في لبنان». طبعا، الوثائق تعري أيضا العديد من الساسة اللبنانيين المسيحيين الذين «ينصحون» بحصر الحرب في المناطق المسلمة والشيعية تحديدا حتى لايفقد الغرب تعاطف أصدقائه في لبنان. الوثائق أظهرت أمريكا كمراهق غني يحتقر جميع زملائه في الفصل حتى من يدعي صداقاتهم، ولايستطيع مقاومة احتقارهم والنهش في أعراضهم، بمن فيهم جيرانه الأقربون أو «حلفاؤه» البعيدون. فبعد أقل من شهر من طمأنة أوباما المراسلين بأن الترسانة النووية الباكستانية توجد بين أيد أمينة كتبت سفيرته في إسلام أبام عن «قلقها الشديد» من وجود كمية كبيرة من اليورانيوم المخصب مخزنة بجانب مركز بحث نووي قديم كافية لصنع عشرات من «القنابل الوسخة». نيكولا ساركوزي، الذي وصف قبل بضعة أيام فقط بأنه أقرب رئيس فرنسي للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية ظهر كشخصية ديكتاتورية صعبة المزاج في نظر الدبلوماسيين الأمريكيين لدرجة تحويل طائرته الرئاسية حتى لا يرى ألوان العلم التركي فوق برج إيفيل بسبب كراهيته العمياء لتركيا والأتراك. ساركوزي وصف التسريب بأنه «قمة اللامسؤولية» روسيا ببساطة دولة تحكمها المافيا، التي تفرض إتاوات على رجال الأعمال، والتي تدفع نقدا وتحمل في الحقائب إلى الكرميلن. وحسب الدبلوماسيين الأمريكيين في موسكو، فإن دفع تلك الأموال لا يعني بالضرورة الحماية الكاملة من الاعتقال، أما الذين لا يدفعون فإنهم يكتشفون بسرعة أن تجارتهم أغلقت لسبب آو لاخر. الجارة كندا لم تسلم هي الأخرى من سلاطة لسان الجار القوي، بل لم تسلم برامجها التلفزيونية التي «تغذي الصور النمطية السلبية عنا لدى الشعب الكندي»، حسب تعبير السفير الأمريكي في أوتاوا. الوثائق لم تخل أحيانا من بعض الصور الكاريكاتورية كبحث الأمريكيين عن نشطاء حماس وحزب الله في المثلث الحدودي الخالي بين البراغواي والبرازيل والأرجنتين أو قصة إعداد التأشيرة للزعيم الليبي معمر القذافي قبل توجهه إلى نيويورك للمشاركة في أشغال الجمعية العامة للامم المتحدة. واستنادا إلى أحد الدبلوماسيين الأمريكيين في طرابلس، فقد طلب من أحدهم-حذف اسمه من الوثيقة- أن يوفر صورة للزعيم الليبي وفق المواصفات المطلوبة للحصول على التأشيرة. لكن صاحبنا تساءل مع مخاطبيه الأمريكيين إن كان التقاط الصورة ضروريا مادامت صور الزعيم توجد بالمئات في كل شوارع المدينة ويمكن تصوير إحداها وتصغيرها لتلبية الغرض المطلوب. هذا جزء من فيض أول أقل من واحد في المائة من الوثائق التي سيطلع عليها العالم في الأيام القلية القادمة يظهر الأسلوب التي تدار به شؤون العالم من القوة الوحيدة في العالم، وما خفي قد يكون أعظم.