لعل منطق العهد الدولي، بخصوص احترام سيادة ووحدة الدول، هو ما يشدد عليه الإعلان الأممي بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية، حيث جاء في المادة الثامنة منه: لا يجوز بأي حال تفسير أي جزء من هذا الإعلان على أنه يسمح بأي نشاط يتعارض مع مقاصد الأممالمتحدة ومبادئها، بما في ذلك المساواة في السيادة بين الدول، وسلامتها الإقليمية، واستقلالها السياسي. إن منطق القانون الدولي بخصوص مبدأ تقرير المصير واضح بجلاء، فهو لا يغامر بوحدة وسيادة الدول من خلال فتح المجال أمام الأقليات والقوميات لتفكيك الدولة الواحدة القوية والمستقرة إلى دويلات متنازعة، تشكل خطرا على نفسها وعلى الاستقرار العالمي. ولذلك، فإن هذه المادة وحدها، يمكنها أن تحد من أية تأويلات مغرضة للقانون الدولي، لأنه بريء من شرعنة الانفصال، باسم مبدأ تقرير المصير، وأية محاولة مغرضة لتفكيك أية دولة، يمكن التعامل معها كخرق للقانون الدولي، يجب مواجهتها عبر الانتصار للشرعية الدولية التي تربط حق تقرير المصير بالشعوب/الدول الخاضعة للاستعمار، وليس بالأقليات المشكلة للدول. ويمكن أن نحيل الحلف النيوكولونيالي، الذي يستثمر في الانفصال لتحقيق مصالحه الاستراتيجية باسم القانون الدولي، على النموذج الأمريكي والنموذج الكندي، وهما نموذجان في غاية الدلالة، على أن الدعوة إلى الانفصال باسم تقرير المصير هي دعوة تقوم على خرق القانون الدولي، حينما تهدد وحدة واستقرار الدول، وبالتالي يجب الاحتكام إلى الشرعية الدولية لمواجهة هذه الدعوات، سواء كانت داخلية أو خارجية. ولنا في الرئيس الأمريكي «أبراهام لنكولن» وفي قرار المحكمة العليا الكندية الدليلُ الواضح على أن تفكيك الدول تحت شعارات مزورة يعد خرقا واضحا للقانون الدولي نفسه الذي يقر صراحة بأنه حريص على سلامة الدول واستقلالها السياسي. 2 - النظام العالمي الجديد.. مبدأ تقرير المصير لتفكيك الدول
«النظام العالمي الجديد» مصطلح استخدمه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب في خطاب وجهه إلى الشعب الأمريكي بمناسبة إرسال القوات الأمريكية إلى الخليج، حيث أشار في «الحادي عشر من شتنبر!» سنة 1990 إلى إقامة نظام عالمي جديد، يكون متحررا من الإرهاب، فعالا في البحث عن العدل، وأكثر أمنا في طلب السلام. وقد راج هذا المصطلح خلال سنة 1991 في خطاب الأممالمتحدة، بنفس الأبعاد الأمريكية. لكن، رغم الظهور المتأخر لهذا المصطلح في الخطاب السياسي، فإنه ظهر على الصعيد الأكاديمي أول مرة بداية الستينيات، عندما استعمله المحامي الأمريكي المتقاعد كرنفينك كلارك، المستشار الفاعل لعدد من وزراء الخارجية في البيت الأبيض، في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. وقد ظهر مصطلح «النظام العالمي الجديد» للتعبير عن الوضع الدولي الجديد، بعد نهاية الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، وما نتج عنه من بداية بروز القوة الأمريكية الواحدة على الساحة الدولية، بطموحات سياسية وعسكرية توسعية تسعى إلى التحكم في النظام الدولي من منظور يخدم مصالحها الاستراتيجية عبر العالم. وقد ظهر هذا النظام الدولي الجديد -بدلالته السياسية والعسكرية- مقترنا بنظام العولمة -بدلالته الاقتصادية والثقافية- ليشكلا معا التوجهات الأمريكية المستقبلية التي تسعى إلى إعادة تشكيل العالم على المقاس الأمريكي. وإعادة التشكيل هذه تتطلب -حسب الاستراتيجية الأمريكية- اللعب في خرائط العالم، عبر استغلال القانون الدولي، من منظور جديد، يقوم على أساس إعادة توجيه الخطاب الأممي، في اتجاهات مغايرة لما تم رسمه، خلال مرحلة التوازنات الدولية. وإذا كان مبدأ تقرير المصير قد حضر في القانون الدولي مرتبطا بنضال الشعوب من أجل الحصول على استقلالها، فإن النظام العالمي الجديد، الذي تقوده القوة الأمريكية، كان يبشر بواقع جديد. فقد انفتح المجال أمام صناع القرار الأمريكي خلال هذه المرحلة للعودة إلى مبدأ تقرير المصير، مع إعادة شحنه بدلالات سياسية جديدة تخدم المصالح الأمريكية عبر العالم، وذلك بعد إفراغه من دلالته القانونية التي رسخها نضال حركات التحرر عبر العالم، في صراعها ضد الدول الاستعمارية. هكذا، بدأت بعض الأقليات، التي كانت تشكل وحدة سياسية، تفكر في استثمار المعطيات الدولية الجديدة لبلورة مشاريعها الانفصالية، وهذا ما حصل للاتحاد السوفياتي السابق الذي انقسم إلى دول، انضم بعضها إلى رابطة الدول المستقلة، بينما انفصل بعضها الآخر في شكل مستقل، مثل أستونيا وليتوانيا ولاتيفيا... ونفس المصير عاشه الاتحاد اليوغسلافي السابق الذي انقسم إلى دول مثل: كرواتيا، البوسنة والهرسك، مقدونية، سلوفينيا... وقد تم ذلك باسم حق تقرير المصير الذي أعيدت صياغته أمريكيا، لكن حقيقة الأمر كانت توجها أمريكيا واضحا نحو تفكيك المعسكر الشرقي الذي شكل لعقود قوة متكافئة مع القوة الأمريكية، بالإضافة إلى تفكيك الاتحاد اليوغسلافي الذي كان يشكل امتدادا للاتحاد السوفياتي. وقد تم استغلال المؤسسات الدولية خلال هذه المرحلة لإنجاح عملية التفكيك التي كانت تقودها الولاياتالمتحدة، وذلك من خلال رد الاعتبار إلى مفهوم «تقرير المصير» الذي تم استغلاله أبشع استغلال، ومن ثم فتح باب الجحيم على مصراعيه، لتعم الفوضى «الخلاقة!» كل ربوع العالم، حيث تم فسح المجال أمام الأقليات والقوميات، التي كانت تشكل دولا موحدة ومستقرة، للتعبير عن نزوعاتها الانفصالية، مستغلة الدعم الأمريكي المطلق. وهكذا عاد «تقرير المصير القومي» للانبعاث، بعدما تم الحسم معه في القانون الدولي لصالح تقرير مصير الدول/الشعوب. وهذا الوضع الدولي الجديد، لو استمر على هذا الحال، سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في العلاقات الدولية، لأنه ليست هناك دولة واحدة في العالم تضم قومية واحدة، لذلك فإن مبدأ «تقرير المصير»، بشكله النيوكولونيالي، يمر من مأزق خطير، خصوصا إذا حل الشعب بالمعنى القومي محل الشعب بالمعنى القانوني. 3 - مبدأ تقرير المصير.. الأجندة النيوكولونيالية في المنطقة العربية
إن المؤسف حقا في ما يجري اليوم من مشاريع انفصالية، وخصوصا في المنطقة العربية، هو أن المؤسسات الأممية، المفروض فيها حماية القانون الدولي لأنها تمثل إرادة جميع شعوب العالم، أصبحت أداة طيعة في يد النيوكولونيالية الأمريكية، تستعملها في فرض شعارات فارغة على الأمم والشعوب، في استغلال بشع للشرعية الدولية التي أصبحت تهدد استقرار الكثير من دول العالم، خدمة لأهداف استراتيجية أمريكية خاصة. ولعل ما يجرى في السودان الآن من تفكيك وتمزيق للدولة، باسم تقرير المصير، ليعد تواطؤا واضحا بين النيوكولونيالية الأمريكيةوالأممالمتحدة، حول خرق القانون الدولي لشرعنة الانفصال الذي يحمل بين طياته أجندة أمريكية-صهيونية مفضوحة، تستهدف مجموع المنطقة العربية ضمن ما أطلقت عليه الولاياتالمتحدة، في شراكة مع الصهيونية والاتحاد الأوربي، «مخطط الشرق الوسط الكبير» الذي يقوم على أساس إعادة صياغة خرائط المنطقة العربية على أساس حدود الدم Blood border كما جاء مع رالف بيترز، وكذلك مع هنري كيسنجر الذي وضع مخططا لتقسيم المنطقة العربية. يتبع...