إن اللغة ليست مجرد أداة تواصل وتعبير، ولكنها كيان ذو حمولة اجتماعية وثقافية قوية، كيان يترجم، بعمق، زخم الانتماء الذي يستشعره الأفراد الذين يتحدثونها ويتماهون معها، لذا فإن اللغة -أو اللغات- كانت دائما موضوعات لصراع يتجاوز ما هو لغوي وثقافي في حد ذاته إلى ما هو سياسي وحضاري. وقد رأينا شعوبا وجماعات بشرية تدافع عن لغتها، تماما كما تدافع عن أرضها، على اعتبار أن اللغة «أرض» رمزية يسكنها الإنسان، والوطن أرض فعلية ملموسة يتجسد فيها وجوده القومي والسياسي. انطلاقا من هذا، فإن مسألة اللغة لم تكن محسومة في أي وقت من الأوقات، بل كانت -باستمرار- موضوع صراع وتأقطب وتجاذب، بين فعلة عديدين وبين ذوات متكلمة متناقضة، أحيانا كثيرة. إن المسألة اللغوية هنا ذات بنية جدلية وصراعية بامتياز، لأن الأمر يتعلق بالصراع الذي تخوضه لغة ما من أجل الاستمرار والوجود داخل سياقات تتسم بالنفي والإقصاء، من جهة، وبإرادة إثبات الذات، من جهة أخرى، أي داخل ساحة مفتوحة تبحث فيها كل لغة على حدة على ما يضمن شروط البقاء والاستمرار. إن الأمر يتعلق ب«سوق» لغوية شرسة، قد تنهار فيها أسهم لغة ما، وتنحسر وقد تتلاشى أحيانا كثيرة، بينما تتقوى أسهم لغة أخرى وتنتشر فيها وتفرض نفسها، باعتبارها وسيطا ناقلا وحاملا للأفكار والتصورات الجديدة، المرتبطة بالحاجات والرغبات التي تستجيب للعصر الحديث وتتماهى مع رياح العولمة فيه. خلف هذه السوق اللغوية الشرسة، يكمن أفراد وجماعات بشرية شبيهون إلى حد ما بمضاربي البورصة، للعمل على رفع من قيمة أسهم هذه اللغة في مواجهة اللغات الأخرى، عبر المساندة السياسية والثقافية المباشرة لها، لإبراز دورها في العالم، كما حدث مع الفرنسية في إطار ما يسمى السياسة الفرنكفونية ومع الإنجليزية، التي اكتسح نموذجها السياسي والثقافي العالم. اللغة والعولمة حين نقول المسألة اللغوية، فإننا لا نشير بالضرورة إلى اللغة معزولة ومجردة عن محيطها الاجتماعي والتاريخي والثقافي والسياسي، لا ننظر إليها كقناة للتواصل بين متكلمين محدَّدين في الزمان والمكان، تجمع بينهم قواسم مشتركة. إن تعبير «المسالة اللغوية» ذو طابع إشكالي، إذ يعني على المستوى الأفقي العلاقة الصراعية بين اللغات على المستوى العالمي، وهي العلاقة التي ازدادت توترا خصوصا مع العولمة، ويعني على المستوى العمودي التجاذبات التي تحكم مجموعة من اللغات وتحدد العلاقة بينها داخل البلد الواحد. يمكن أن نشير، بصدد المستوى الأفقي الآن، إلى الصراع الذي تخوضه مجموعة من اللغات في عصر العولمة الاقتصادية والثقافية، بين الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والصينية، أيضا، وهي «الوافدة» الجديدة، التي ولجت السوق اللغوية مسلَّحة بقوتها الاقتصادية سريعة النمو وبرغبتها في اجتراح مكانتها داخل العالم، المكانة التي تليق بلغة يتكلمها حوالي مليارين من الأفراد وتليق بقوة عظمى قادمة. هنا، بالذات، نجد أن النموذج الاقتصادي والنموذج الثقافي يحددان طبيعة الأسلحة التي تستعملها لغة ما في فرض نفسها داخل العالم. رأينا النموذج الفرنسي، في أوجِه، وقد تبنى الفرنكفونية باعتبارها سياسة ثقافية رسمية، عبر تأسيس مؤسسة خاصة بها وعبر المراكز الثقافية المنتشرة عبر العالم، وخصوصا في إفريقيا، لكن انحسار انتشار الفرنسية على الصعيد العالمي أدى إلى انحسار قوتها ومداها، ما عدا بالنسبة إلى مجموعة من الدارسين والباحثين فيها أو الناطقين كليا أو جزئيا بها، كما يحدث في دول المغرب الكبير. هنا بالذات برزت قوة الإنجليزية باعتبارها لغة الاقتصاد المالي والبورصوي الحديث ولغة مختلف المظاهر الثقافية الحديثة التي شهدت انتشارا واسعا عبر العالم، بدءا من موسيقى «الروك» وحتى الصحف والمجلات، مرورا بالسينما، وأنماط الاستهلاك، والموضة... إلخ. إزاء هذا التنافس الدولي الشرس، فإن اللغات تلفي نفسها إما منذورة للتقوقع داخل الحدود الوطنية للناطقين بها أو فقط لإحياء ذلك الحنين الاستعماري القديم، عبر تشجيعها في المستعمرات القديمة، كما يحدث بالنسبة إلى الفرنسية في إفريقيا. إن المشكلة اللغوية لا تنحصر فقط في هذا المستوى الكوني المعولَم، خصوصا أن طبيعة الفعَلة السياسيين واللغويين حاضرة فيها بكل الزخم الإرادوي والسياسي. لقد رأينا مثلا كيف تبنّت الكثير من الخطابات السياسية عبر العالم شعار أوباما «yes, we can» وصارت تتحدث الإنجليزية، سواء في كينيا أو مصر أو حتى في تونس، مؤخرا... إن الانجليزية نفسَها لا تفلت من جاذبية هذا الصراع في عقر دارها، أي الولاياتالمتحدة، حيث تصارع من أجل البقاء، بالرغم من قوتها على الصعيد العالمي، وخصوصا إزاء اللغة الإسبانية، الصاعدة، والتي يتحدث بها مئات الآلاف من المهاجرين من أمريكا اللاتينية. الصراع اللغوي إن مدن أمريكية، مثل لوس أنجلس، حيث يتواجد ويعيش كمّ هائل من المهاجرين الناطقين بالاسبانية، تعيش هذا الصراع اللغوي يوميا، سواء مع لغات المهاجرين الأسيويين أو الأمريكيين الأفارقة أو الأمريكيين البيض.. إن اللغة، كما يرى عبد الله العروي، لا ترتبط فقط بالحرف والثقافة والتربية، ولكنها ترتبط أيضا بالهوية والانتماء والتكتل والانسجام. إن اللغة التي تتكلم بها جماعة بشرية ما، تنطرح، أحيانا كثيرة، باعتبارها المحدد الأساس لهوية هذه الجماعة، وهذا التحديد الهوياتي هو ما يجعل النظر في المسألة اللغوية، بشكل مجرد، صعبا، لأنها مسألة انتماء وحياة ووظائف حيوية، ولأن اللغة معبرة عن الأفكار والرغبات والأحاسيس الفردية والجماعية. إن الأفراد، حتى على صعيد الحلم، لا يحملون إلا باللغة التي يتكلمون بها في حياتهم اليومية، لذا يقال اللغة -الأم، أي الأقرب إلى نوازع الإنسان، المعلَنة أو الخفية. المشكلة المطروحة هنا، والتي تزداد تعقيدا مع تناسل التأويلات وتعدد المرجعيات، هي بالذات طبيعة هذه العلاقة مع الهوية، التي يؤولها البعض دينيا، حين يتم الحديث عن ضرورة الدفاع عن اللغة العربية أو الفصحى، لأنها لغة القرآن، التي نزل بها الوحي، ويؤولها البعض ثقافيا، حين يقول إن اللغة تعبير عن هوية ثقافية متميزة يجب صيانتها وتقويتها، كما حدث بصدد الأمازيغية، أو يتم تأويلها سياسيا وثقافيا، في آن، كما يحدث مع لغات ترى فيها جماعات بشرية وشعوب ما المُعبِّرَ الأوحدَ عن هويتها السياسية، كما حدث بالنسبة إلى لغات كثيرة. تُدخلنا المسألة اللغوية، أيضا، بشكل صريح، في النقاش الدائر حول اللغة واللهجة أو اللهجات، وهل يمكن تبادل الأدوار بينهما، ضمن سياق يتسم بالتعدد اللغوي واللهجي الملموس. يمكن القول إن هذا التأقطب والتجاذب ذو طابع أكاديمي، أولا، وإيديولوجي، ثانيا. يتجلى طابعه الأكاديمي في التحديد المعرفي والعلمي لكل من اللغة (langue) واللهجة (dialecte)، لأن الأولى تحيل على نظام تواصل لغوي يخضع لمعايير وضوابط وقواعد مستويات عدة: لغوية، نحوية، دلالية، صوتية وتركيبية، بينما نلفي هذه المعايير غائبة تماما عن أوعاء الناطقين باللهجة، وغير موعى بها، لأنها فطرية وغريزية لا مكتسبة أو منظمة داخل قواعد. ظهر الصراع بين اللغة واللهجة معرفيا وأكاديميا، لكنه لم يفلت، بالضرورة، من أسر التأويل الإيديولوجي، لأن المسألة اللغوية ليست محايدة، ولأنها مرتبطة بمفهوم الثقافة في بعده الأنثروبولوجي، المرتبط بالاختلاف الثقافي. إن الأنساق التصنيفية البيولوجية والسوسيولوجية المتنوعة جدا، والتي رأت النور، مع الكثير من النتائج السياسية الكارثية، منذ القرن ال91، شهدت الحضور الطاغي، الملحّ عبر التاريخ، والذي كثيرا ما اعتُبر من وجهة نظر سياسية محايدا لمفهوم ونسق «الثقافة». إن الثقافة من هذا المنظور تمنح التواصل الإطارَ التصنيفي الضروري في للحفاظ على الاختلاف في درجة مقبولة من طرف الحكامة السياسية ولضمان نوع من التوازن في التسنين الثقافي واللغوي. لم يكن هذا النقاش الأكاديمي والمعرفي حول مفهومي اللغة واللهجة وحول العلاقة بينهما وتحديد مجال اشتغال كل منهما، في أي لحظة، نقاشا بريئا ومحايدا، لأنه مرتبط بمسألة الاختلاف الثقافي العنيد، أي الذي لا يمكن اختزاله، وهو اختلاف همه الأساس الاعتراف بهوية ثقافية قائمة بذاتها، كما هو الأمر بالنسبة إلى الأمازيغية، أي إضفاء الشرعية على وجود ثقافي، وهوياتي ضارب في القدم، عبر شرعنة مجموعة من اللهجات الأمازيغية، التي لا ترتبط فقط بالتواصل اللغوي بين الناطقين بها، بل تظل حاملة لمطالب اجتماعية وثقافية وسياسية مشروعة، تماما كما هي مشروعة مطالب المثقفين القوميين العرب في المغرب أو من يسمّوْن «العروبيون»، حين يدافعون عن العربية الفصحى بأسلحة إيديولوجية واضحة، ترتبط بالهوية والدين. هنا، بالذات، نصل إلى بيت القصيد، لأن المسألة اللغوية تتعلق، أساسا، بالتعدد اللغوي واللهجي، سواء في طابعه المتساكن أو المتصارع، وهي المسألة التي يظن العروي أنها ليست وضعا غريبا لا مثيل له، لأن شعوبا أخرى عاشتها، لأن «تساكن لغتين وثقافتين، وفي عهد سابق كتابتين، هو القاعدة في التاريخ وليس الاستثناء. الوفاء للحرف العربي هو وفاء في صيغة مخصوصة ولثقافة هي نتاج مجتمع بعينه. الحرف واللغة كلٌّ منسجم، وظيفته التواصل والاستمرار»، (من ديوان السياسة، ص. 05). تتحدد المسألة اللغوية، إذن، لا على المستوى اللساني (linguistique)، بل على مستوى علاقة اللغة بالثقافة. «الثقافة العربية، كما تعبر عنها اللغة المعربة، تعكس صورة مجتمع معين، بخصوصياته العرقية والمعاشية والاجتماعية والعقائدية، وتعمل من خلال التربية النظامية على أن يرثه جيل عن جيل (...). الثقافة العربية هي، بالفعل، ثقافة الخاصة، بل ثقافة خاصة الخاصة، الحكام والكتاب والفقهاء»... ثورة وأية ثورة ! يصعب على من ارتوى منها أن يفرط فيها، إذا ما ثقفها، أي إذا كان من النخبة (...) هنا تعمل نوازع الهيبة والنية والولاء، وربما الخشية والخوف. في المسجد وفي الزاوية، ينصتون إلى ما يغريهم ويرهبهم، دون أن يعرفوا شيئا بالتجربة والعيان». (المرجع السابق، ص 15). تحيلنا مسألة التعدد اللغوي هذه على مسألة العلاقة بين ثقافة الخاصة أو النخبة وثقافة العامة أو عموم الناطقين باللغة أو بلغات أخرى، أي العلاقة بين المركز والهامش، وهي قضية أساسية وهامة، لأن اللغة ترتبط، أيضا، بجغرافيا ومناطق لغوية وثقافية واجتماعية تمارس فيها كل منطقة ثقافية لغوية هيمنتها على المناطق، باعتبارها منطقة المركز. ترتبط هذه الهيمنة الثقافية بطبيعة الفعَلة، الذين يتحكمون فيها، وبمصالحهم ورغباتهم، وترتبط أيضا بنمط الحكامة الثقافية، التي توزع حصص الشرعنة (légitimation) على هذه اللغة أو تلك، سياسيا وثقافيا ولغويا. إن المسألة تتعلق برأسمال رمزي ينبغي استثماره، انطلاقا من هذا التوزيع اللا متكافئ لحصص الشرعنة، بين هذه الجماعة الثقافية واللغوية أو تلك، وهو ما يبرر التهميش والإقصاء وعدم الاعتراف بالاختلاف الثقافي والاستناد إلى مبررات وتأويلات إيديولوجية محضة لتبرير ذلك، كما يحدث، مثلا، بالنسبة إلى مطلب دسترة الأمازيغية. اللغة كوسيلة للهيمنة يقودنا هذا، بالضرورة، إلى الحديث عن اللغة المهيمنة واللغة المهيمَن عليها، لأن استراتيجية الهيمنة ترتبط بالسياسة الحيوية، التي تنتظمها إجراءات وأدوات الحكامة (gouvernance)، التي تسمح بوضع تصور للطريقة التي عبرها تدخل سيرورات الحياة، وإمكانية مراقبتها وتنظيمها وتغييرها عبر العديد من التقنيات، إلى دائرة السلطة، وتصير، تبَعاً لذلك، الهمَّ الأول. انطلاقا من هذا، يبدو ضروريا، في ما يخص المسألة اللغوية، تدبير الاختلاف الثقافي بالشكل الذي يسمح للممارسة اللغوية والثقافية بأن تنتعش وتعبّر عن الهوية أو الهويات الثقافية للأفراد المنتمين إليها والذين يمارسونها. إن الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية مرتبطة بحياة اللغة أو اللغات التي تعبر عنها وتترجمها، لأنه حتى في حالة انقطاع الصلة مع اللغة، يظل الانتماء قائما. «كاذب أو منافق من يدعي أنه يقف من مسألة الأمازيغية موقف المتفرج اللاهي أو الملاحظ المتجرد أو الباحث الموضوعي. كل منا، حسب وضعه الاجتماعي وتربيته الأولية، يوالي الدعوة أو يعاديها تلقائيا. ثم بعد حين، بعد التفكير والتروي، يميل إلى الاعتدال والنقاش الهادئ». (العروي، في ديوان السياسة، ص. 35). إن مسألة الأمازيغية، في هذا السياق، ليست سوى جماع المتناقضات، في تدبير المسألة اللغوية المتعددة في المغرب، المفتوحة على رياح العولمة، من جهة، وعلى الدعوات النكوصية المحافظة والرجعية، من جهة أخرى. إنها مسألة متعددة التأويلات والمرجعيات، لكن المطلب اللغوي بالاعتراف والشرعنة يرتبط، هنا، بالتجربة التاريخية لشعوب أخرى عاشت هذه العلاقة الملتبسة بين لغة وثقافة المركز ولغات ولهجات وثقافات الهوامش، لكن هذه الثنائية (المركز /الهامش) ليست مصيرا محتوما لا مفر منه. ومن الضروري هنا، في ظل الوضع الاعتباري للتعدد اللغوي، الاستعانة بالخبرات والقدرات لدى الباحثين والتقنيين والاستفادة من التجارب التاريخية في هذا السياق. ليس غريبا أن نجد أن منطقة كيبيك (quebec) في كندا، التي تعيش ازدواجية لغوية (فرنسية -إجليزية)، هي إحدى المناطق التي برزت فيها حركة التنظير للترجمة انطلاقا من ضرورة لغوية ملحة بالذات. إن المسألة اللغوية عندنا في المغرب تظل متأرجحة بين نموذج التساكن الثلاثي (أمازيغية، عربية، لغة أجنبية) أو الاختزال في قطبين (أمازيغية وعربية)، وهذا التجزيء للحقل الثقافي هو ما عرفته منطقة شمال إفريقيا في معظم فترات تاريخها.