وضعت السينما المغربية يدها على الألم في فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات، وكانت في مقدمة الإنجازات التي حققها عصر النضال الثقافي والصراع السياسي في مجال النهوض والرفع من المستوى الفني والخلقي والثقافي للمجتمع، القائم على العمل الجاد والملتزم والنزيه والذي يظهر من خلاله حب الوطن والإخلاص له. وفي مرحلة مبكرة، تأسست الملامح الأساسية للمشهد الثقافي السينمائي، وكانت خطوة متقدمة ومنعطفا هاما في مسيرة السينما المغربية. والطابع الغالب على هذه السينما هو قيمتها الفكرية والفنية التي غذت قطاع الفن السابع وخلقت سينما تمس هموم الناس ومشاكلهم ببصمة اجتماعية وسياسية وفنية وجمالية متميزة. وحرص مخرجو تلك الفترة واحترموا، باستمرار وبلا هوادة، الفن السينمائي وعلاقته بالواقع ورصدوه في أفلامهم بدافع الحب والعشق والالتزام الروحي والفكري والإيديولوجي، مع الأخذ دائما في الاعتبار الدور الهام الذي تلعبه السينما في توعية الشعوب. ولادة سينما حقيقية «سنوات الرصاص» هي الفترة التاريخية التي عاشها المغرب في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وهو مصطلح متداول يشير إلى أوضاع تلك الحقبة السياسية المحصنة كأحصنة طروادة والملغمة بالإيديولوجيات الملهمة بالنضالات السياسية وبناء حركة التفاعل الفكرية. وفي قلب هذه الأحداث، توتر الوضع واهتزت الأرض وعمت الاختلافات السياسية والنزعات الثورية وخيم شبح الانقلابات العسكرية المرعبة والمخيفة، متجاهلة الدور التاريخي والشرعي للملكية المغربية بمواقفها الوطنية إلى جانب الشعب في ثورته ضد الاستعمار. فاليسار الذي روج لإيديولوجية «الأممية الاشتراكية» أقصى من اهتماماته أية إمكانية لتحقيق المبادئ الكبرى إلا عن طريق العنف، ولم يع «أزمة التوجه السياسي» فتسبب لكل الحركات السياسية المعارضة، بكل أطيافها وأشكالها، في القمع من قبل السلطة. وأدت كل الحركات السياسية، ولاسيما اليسارية منها، ثمنا غاليا قوامُه تسلطٌ واعتقالاتٌ وسجنٌ وتعذيبٌ وقتلٌ. ووسط هذه السلبيات، لجأت المعارضة السياسية إلى تكتيك جديد على طراز حصان طروادة، يحتمي وراءه لنشر ثقافته السياسية. وتسلل اليسار، من بين ما تسلل إليه، إلى الحقل السينمائي باعتباره سلاحا هاما يتجاوز دوره الفني والسينمائي إلى مساءلة القضايا السياسية والاجتماعية. وبرع اليسار في إحداث التوازن بين الحقل الثقافي والحقل السينمائي ليستكمل المشهد السياسي، وتجلى ذلك في روعة طبيعة الأفلام المختارة. وكان لهذه النخبة الفضل في نشر الثقافة السينمائية المناضلة من أجل بناء سينمات جديدة في المغرب على أساس فكري مناهض للسينما التجارية وبمستوى ثقافي عال وترفيهي بسيط، فأطلعتنا على النماذج المتقدمة في السينما العالمية مثل المدرسة التعبيرية والواقعية الاجتماعية والواقعية الجديدة والموجة الجديدة والسينما البديلة الهادفة وغيرها. وليس سرا أن فترة «سنوات الرصاص» أثرت ساحة الفكر السياسي ونبشت في المخزون الثقافي الوطني ووضعت الحجر الأساسي لمسيرة الإبداع الفني في أحسن نقائه وصفائه بحجم الحياة. هذه النخبة اليسارية المثقفة صنعت طبقة من المخرجين المغاربة الجادين تمكنوا من أن يقدموا أعمالا سينمائية لامعة وأن يتحسسوا مكامن الإبداع السينمائي بما لهم من تميز ثقافي وتوجه سياسي، واستطاعوا أن يتغلبوا على التقاليد الإنتاجية السائدة، وأن يصنعوا سينما جادة وراقية. والمدهش في هذه التجربة أنه بالرغم من أن خصوصيات المرحلة التاريخية التي واكبت تأسيس السينما المغربية لم تكن في صالحها، فإنها استطاعت أن تبرز وتفرض نفسها محليا على الأقل. واتخذ هؤلاء المخرجون استراتيجية تلقي بكل ثقلها المادي والمعنوي وتجعل من السينما نافذة يطل عبرها الشعب المغربي على ذاته وعلى العالم قصد التواصل مع الثقافات والحضارات الأخرى. فبالرغم من الحظر السياسي في هذه المرحلة، نشطت الأندية السينمائية وكانت بمثابة مكان لتسويق الإيديولوجية والخطاب السياسي، وكانت السينما تتخذ كذريعة لهذا الإنتاج السياسي والثقافي. ومن هنا تشكلت هذه الثورة في مجال إنتاج خطاب حول السينما بشكل عام وخطاب حول السينما المغربية بشكل خاص. وبزغ نجم المفكر والدكتور والناقد السينمائي محمد نور الدين أفاية، الرائد المؤسس لمشروع الأندية السينمائية والمرسخ للسينما كفن ثقافي، والجيلالي فرحاتي الذي أدهشنا، ومازالن بإبداعاته الفنية السامية في أكثر من فيلم، وأحمد بوعناني وحميد بناني ومحمد الركاب وسعد الشرايبي الذين عرفوا كيف يفجرون ثورة الصورة بفضل تشبعهم بمعارف علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا والفلسفة. ونقل هؤلاء إرثهم الثقافي إلى مجال السينما الذي كون الخلفية الثقافية للنقد السينمائي. وأصبحت هذه النجاحات مصدر فخر لتلك المرحلة، حيث ظهرت ولأول مرة مجموعة من المخرجين المغاربة الذين ابتدعوا تقنيات جديدة في السينما رغم الضغط وقلة المساعدات المادية، ولم يخشوا من النقد الاجتماعي. أفلام خالدة ومن أهم أفلام تلك الفترة شريط المخرج السينمائي المغربي حميد بناني «وشمة» (1970) الذي نعتبره علامة تأسيسية في السينما المغربية، فقد أسس بحق هذا الفيلم، الذي صوره بأكمله في قرية مغربية، لمنهج الواقعية الجديدة الذي نادت به السينما الإيطالية، وهي المدرسة التي سيتبعها أهم مخرجي المغرب فيما بعد. فظهرت رموز في الإخراج وشمت في الذاكرة وأمتعتنا بأفلام كأنها المعلقات السبع في تاريخ السينما المغربية. فظلت السينما المغربية حتى نهاية السبعينيات، وربما منتصف الثمانينيات، تنتج أفلاما ذات مستوى فني عال، ربما كان من أهمها فيلم «ألف يد ويد» (1972) لسهيل بن بركة و«الشركي» (1975) لمومن السميحي و«أليام أليام» (1978) لأحمد المعنوني و«السراب» (1979) لأحمد البوعناني و«عرائس من قصب» (1981) للجيلالي فرحاتي و«حلاق درب الفقراء» (1982)، الذي سجن مخرجه المرحوم محمد الركاب بسبب ما ترتب عنه من ديون إثر إخراج الفيلم، و«رماد الزريبة» (1979) بتوقيع سبعة مخرجين، إلا أن بصمة محمد الركاب واضحة في كل محطات الفيلم. وظف هؤلاء المخرجون السينما بطريقة ذكية لإشعاع الثقافة الراقية والفنون الهادفة لأنهم اقتنعوا مع أنفسهم بأن السينما مرآة عاكسة للمجتمع والحياة تزداد قيمتها بازدياد ما تعكسه، وأنجح الأفلام هو ما عبر عن حقيقة أو هوية حتى يسمو إلى أعلى المراتب. فساهمت تلك الفترة في تشكيل الوعي السياسي والإيديولوجي والاجتماعي، إضافة إلى الوعي الجمالي الفني. فتناولت أفلام أولئك المخرجين حياة الفقراء والطبقة العاملة وأوضاع الحياة اليومية، واهتمت بالمواطن المغربي وآلامه وهواجسه بأسلوب بسيط وتفاصيل دقيقة. وتميزت سينماهم باللقطات الطويلة في مواقع التصوير الحية، وغالبا ما تعتمد على ممثلين غير محترفين أو ذوي خبرة قليلة، لكن محتوى هذه الأفلام كان ذا وقع كبير على النفسية المغربية. كما حملت هذه السينما صياغة مشروع فكري وعملي مستقل، وانطلقت من قواعد ثابتة، وجاءت الأفلام مشحونة بالرسائل الإنسانية وفي قمة الإبداع لأن مخرجيها كانوا من صفوة البلد الذين يقدرون الفن وأخلاقياته. هكذا عرفت تلك الحقبة، عن حق وجدارة، جيلا من السينمائيين المغاربة جعلوا من الفن خدمة لوطنهم وقضاياه وواظبوا على رسم ملامح ذات هوية خاصة، حتى وإن كانت تركز على المزج بين الروائي والتسجيلي، لكن بلغة إنسانية وعاطفية شفافة ومؤثرة، ونجحت سينماهم في خلق لغة من الحوار الثقافي والحضاري بين المغاربة على الأقل. وتجدر الإشارة إلى أن لكل من هؤلاء المخرجين بصمته الخاصة التي تشكل رؤية سينمائية معينة، فاستشعرنا هذه السينما بكل حواسنا لأنها كانت تنهمر من روح قلب المخرج، وستبقى تلك الأفلام زاهية إلى الأبد كقوس قزح في سماء الفن السينمائي المغربي. لكن مع الأسف، عوضت تلك الأجيال، التي علمتنا كيفية الانفتاح على ثقافة سينمائية سامية واستعملت سلاح العقل وليس الزعيق الفارغ، شرذمة من «الهوليغانز» أنتجت أفلاما كأنها عينات من الغائط تخرج من أفواه البالوعات لتطفو على سطح الماء مع باقي الأوساخ لتحجب ما تحته.