ظاهرتان لفتتا الانتباه في المنطقة العربية، أو بلدان منها، كرد فعل على الثورة الشعبية التونسية، وبتأثير مباشر من فعالياتها: - الأولى: إقدام عدد من الشبان على إحراق أنفسهم أمام دوائر حكومية رسمية للتعبير عن استيائهم من الأوضاع المعيشية على غرار ما فعله الشاب محمد البوعزيزي ابن سيدي بوزيد الذي أشعل فتيل الاحتجاجات على طول بلاده وعرضها. فقد اقتدى به أربعة شبان في الجزائر وواحد في موريتانيا وآخر في مصر حتى الآن. - الثانية: مسارعة حكومات عربية إلى تخفيض أسعار المواد الغذائية وبعض السلع الأساسية الأخرى، في محاولة لامتصاص النقمة الشعبية ومنع تفجر احتجاجات في شوارع مدنها وعواصمها، فالحكومة الجزائرية كانت البادئة بهذه الخطوات عندما خفضت أسعار المواد الغذائية إلى النصف، وكذلك فعلت نظيرتها السورية عندما دعمت أسعار وقود التدفئة، بينما ذهبت الحكومة الكويتية إلى أبعد من ذلك عندما دفعت مبلغ ألف دينار لكل أسرة، علاوة على توزيع الطعام مجانا، فيما أعلن العاهل السعودي الملك عبد الله أن الميزانية الجديدة ستعالج أي قصور اقتصادي واجتماعي بالمملكة. الخطوتان ليستا الحل المناسب الذي يتطلع إليه رجل الشارع العربي، وإن كانتا ضروريتين، فإذا كان بمقدور الحكومات الإقدام على مثل هذه الخطوات، وتملك القدرات المالية لتقديم مثل هذه «الرشوة» السريعة إلى المواطنين، فلماذا تأخرت كل هذه السنوات، ولماذا لم تتحسس معاناة المواطنين قبل اندلاع الثورة الشعبية في تونس؟ الشعوب تريد الخبز، مثلما تريد مواد ضرورية أخرى بأسعار معقولة، ورواتب تتماشى مع معدلات التضخم وغلاء المعيشة، ولكنها فوق كل هذا وذاك تريد حكما رشيدا وحريات سياسية وإصلاحات اجتماعية وخطط تنمية مدروسة توفر الوظائف للشباب، والأهم من هذا كله مكافحة الفساد والتوزيع العادل للثروة. أسرة بن علي ليست الوحيدة المتهمة بالفساد، فالغالبية الساحقة من الأسر الحاكمة في الجمهوريات العربية غارقة في الفساد، وأفرادها الذين يتقاتلون على الصفقات التجارية واحتكار الشركات ووكالات السلع الأجنبية معروفون لجميع المواطنين. أنظمة الحكم العربية ترتكز على تحالف غير مقدس بين الحاكم وأسرته، ومجموعة من رجال الأعمال كونت ثروات طائلة من امتصاص عرق الفقراء والمحرومين واستخدمت الدولة وأدواتها لخدمة فسادها ومصالحها والتصرف كما لو أنها فوق القانون. جرائم عديدة ترتكبها مافيات السلطة في أكثر من بلد عربي ولا يتم اكتشافها، بسبب تواطؤ السلطة وأجهزتها الأمنية مع هؤلاء المجرمين وحمايتها لهم وتجاهل أجهزة الإعلام الرسمية لهذا التحالف غير المقدس. التونسيون، الذين أثاروا إعجاب العالم العربي بأسره وأقدموا على أهم سابقة في تغيير نظام حكم ديكتاتوري بطرق سلمية حضارية، لم ينزلوا إلى الشوارع طلبا للخبز فقط، وإنما من أجل استعادة كرامتهم واستقلالهم الحقيقي، ولا نبالغ إذا قلنا إن مستوى المعيشة في تونس أفضل من جيرانها «النفطيات». الشعب التونسي يريد إنهاء سيطرة الحزب الواحد على السلطة وتأسيس ديمقراطية حقيقية، تقوم على التعددية السياسية وتوسيع دائرة المشاركة في الحكم ودائرة صنع القرار. نرى محاولات دؤوبة من قبل أنصار النظام القديم لخطف الثورة الشعبية وتوظيف نتائجها في إعادة إنتاج النظام وتدويره من جديد، الأمر الذي يثير قلق الكثيرين من أبناء هذه الثورة والمتعاطفين معهم في الوطن العربي بل والعالم بأسره. استمرار بعض رموز النظام القديم في الحكومة الجديدة المعلنة بالأمس (يقصد الاثنين) هو مبعث هذا القلق ومصدره، والشيء نفسه يقال أيضا عن استبعاد بعض الأحزاب والشخصيات الوطنية من المشاورات الصورية التي أدت إلى تشكيلها. صحيح أن استقرار البلاد، ووقف أعمال العنف، وإعادة الأمن إلى مستوياته المعقولة، ووضع حد لأعمال النهب والسلب وتدمير الممتلكات العامة والخاصة هي هدف سام يشكل أولوية، ولكن الصحيح أيضا أنه يجب التركيز في هذه المرحلة على استقرار أبدي يدوم وليس استقرارا مؤقتا، وعنوان الاستقرار المأمول هو التجاوب مع مطالب الشعب كاملة وعدم التضحية بدماء الشهداء. لا نريد من الشباب الجزائري أو المصري أو الموريتاني أن يحرق نفسه للتعبير عن إحباطه أو حرمانه من فرص المشاركة في تقرير مصير بلاده وإنما نريد أن يقتدي بالنتائج التي تترتب عن إحراق البوعزيزي نفسه، أي النزول إلى الشارع للاحتجاج بطريقة حضارية سلمية ضد الطغمة الفاسدة التي أوصلت الشباب العربي إلى هذا الوضع المؤسف والمأساوي. ظاهرة الإحراق هذه وبالقدر الذي تعكس به درجة الظلم التي يعانيها شبابنا، تأكيد على استعداد شبابنا للموت من أجل الوطن. ولكننا نقول لهؤلاء الشباب نريدكم أن تعيشوا من أجل الوطن. التونسيون ضربوا مثلا في التحركات الشعبية للوصول إلى التعددية السياسية عندما نزلوا إلى الشوارع نساء ورجالا، إسلاميين وعلمانيين، فقراء وطبقة وسطى، جنبا إلى جنب ودون أية تفرقة من أجل مصلحة بلادهم والتخلص من كل ما علق بها من أدران الفساد والديكتاتورية. تونس لم تكن الدولة البوليسية الوحيدة، فالغالبية الساحقة من الأنظمة العربية تحكم بقبضة حديدية من قبل أجهزة أمن قمعية تتفنن في التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان، ويغيب فيها كليا حكم القانون والقضاء العادل المستقل، ولذلك نتوقع ألا يكون ما حدث في تونس هو الاستثناء وإنما القاعدة التي ربما تمتد إلى جميع هذه الدول البوليسية. في الختام، نتمنى على الشعب التونسي وطلائعه القيادية من خارج النخبة الانتهازية أن يتحلى بكل درجات الوعي وألا يسمح لثعالب الحزب الدستوري بأن تخطف ثورته، فما نراه حاليا هو توزيع مناصب أو حقائب وزارية لبعض الشخصيات في أحزاب مستأنسة، لم تكن بعيدة كثيرا عن النظام السابق بل ظلت دائما تحت عباءته وتقتات على فتات رضائه. فالمسألة ليست بإسناد حقائب ثانوية هامشية وغالبا غير سيادية إلى بعض الشخصيات الحزبية من خلال مشاورات صورية وتحت ذريعة الانتقالية أو المؤقتة. ما يجب أن يصر عليه الشعب التونسي هو تأسيس جمعية وطنية مؤقتة تمثل كل الاتجاهات السياسية والاجتماعية، تتوافق في ما بينها على رئيس وزراء جديد ومستقل ونظيف اليد ويملك الخبرة ليقود السفينة في هذه المرحلة تمهيدا لوضع دستوري جديد لمرحلة جديدة، وتتم على أساسه انتخابات حرّة نزيهة لانتخاب رئيس جمهورية وبرلمان يمثل الشعب التونسي تمثيلا حقيقيا. نضع أيدينا على قلوبنا لمحبتنا للشعب التونسي وحرصا على تضحياته ودماء شهدائه لأننا لا نريد لهذه الثورة إلا أن تنجح وتعطي ثمارها، ليس في تونس فقط وإنما في كل أنحاء الوطن العربي.