الموت شبح مخيف تُزعجه الحياة التي ظل دبيبها يسري في كياني، والدِّماء التي ظل دفئها ينضح في أوعيتي، ويحسدني على أشعة الشمس التي تدفقت على فراشي، وتُقلقه الكلمات التي طفقت توشوش بخجلٍ بين أحشاء الكتبِ، ويَغار من هلوسات التمسُّك بالحياة، حتى آخر الرمق، التي بَقيتْ منغرسةً كالجذورِ بين خلايا دماغي. وكذئبٍ في المراعي يشْرَعُ الموتُ في العيثِ فسادا في غرفتي، يبعثر أشيائي ويلتهمُ أشلاءَ مخدتي. ويستهزئُ بالصورة اليتيمة الوحيدة التي أملكها كذكرى عن حبيبتي، ويصول ويجول.. ينتفض تارة وينتفشُ أخرى. يُهرهرُ وأرى أنيابه المدبَّبَة البارزة فلا أظنه يبتسم! وتزداد وقاحته هيجانا وضحكاته الهسترية جنونا وسُعارا، كأنه وحده يملك هذا المكان. ويواصل وقاحته بالعبث بجريدة اليوم فيسخَر من صورها وعناوينها ويُكمِّشها ويلقي بها ويتبول عليها. وأشم رائحة بوله الفائرة، الباردة، النتِنة. فتغيظني صلافته وتثير حفيظتي عجرفته، وتبلغُ مني الإهانة مبلغ السيلِ للزُّبى، فأنسلخُ عن فراشي كما تنسلخ الدودة عن شرْنقتها، وأمتشقُ سيفي وأقرِّرُ المواجهة، وما أدراك ما المواجهة. فيرمقني ويراني كبيدقِ شطرنج تمرَّد على ربه وعلى قوانين اللُّعبة. فيصهل ويُعربدُ، ويصوت صليل سيوفه الصدئة الخشِنة، فأسمع ارتجاج الصُّحون وهزاز الكؤوس بمطبخي، وتبكي ملابسي في الدولاب مخافة أن يرتديها أحدٌ غدا غيري. وتشرع أقلامي في تحرير برقية تعزيتي. وتكفُّ الكلماتُ عن الوشوشة والعناكبُ عن الدردشة. وأدركُ أنها كانت حيلته لاستدراج المُتهوِّرين من الضحايا مثلي، فيترهلُ الخوفُ في فؤادي ويُجلجل الصدى على أدنيّ والسراب على عينيّ، وأذرف دمعي ولا يدرك دموعي. ثم أرغب في التراجع فلا أستطيعُ إلى ذلك استطاعة. فكلما خطوتُ خطوةً إلا واعتقدتُ أن المَكان يُطوى من خلفي كأني على شفا حافة بين الوجود والعدم. الموتُ أمامي والخواء ورائي، ولا سلاح لي سوى السيف الذي بدأ يتشمَّعُ بين أناملي. ولم أستطع إيجاد شيءٍ أمنّي به نفسي سوى أني إذا قتلته أرحتُ المخلوقات منه، وإن قتلني لن يضيف ذلك إلى رصيده شيئا. وسمعتُ هسيس صوته الأزيزي وشمَمَتُ رائحة فمه المُقزِّزة وهو يشير إليّ بأصابعه المتآكلة كأصابع المجذوم ويقول بكبرياء: «هَلمَّ إلي يا ابن قاطعة البظور سألقنك الدرس الأخير». فابتلعتُ ريقي وازدردتُ لُعابي وحاولتُ مقاومةَ اصطكاك أسناني وأجبتُ وعيني تبحلقان في عينيه الرماديتين الغائرتين: «سيكون بيني وبين سيادتكم اتفاق، إذا قتلتني فلتترك أشيائي تُشيعُ جثماني ولا تعبث بجثتي». فسمعته يردُّ بهستريا وبصيغة من يُحاور نفسه: «كلمة قالها، قبلك، هيكتور لآخيل منذ حرب طروادة، فما نفعته بشيء يا ابنَ العرَّافة». ووقفنا معا وقفة محاربين محترفين، رغم أني لم أكن أستطيع إخفاء ارتجافي وارتعاد فرائصي، وأنا أنظر خِلسة إلى أقدامه المنغرسة في أرضية الغرفة، وإلى لعابه المتساقط كرغوة صابون فاسدة. مدَّ يدهُ ببطء وفهمت أن الأمر يتعلق ببعض الرسميات فبسطتُ سيفي ليلتقي بسيفه وسمعته يهمس: «نخبك .. نخب الحياة والموت (ثم تابعَ) هل سبقَ أن خضت تجربة موت؟». فأجبتُ وأنا أخفي الكثير من الامتعاض والاشمئزاز: «لو كان قد حدثَ هذا ما كنتُ أمامكَ الآن». وتابع بعجرفة وهو يُمرِّر سيفه جانبيا على أرنبة أنفه: «هل خاضها أحدٌ من أقاربك وحدَّثك عن ذلك؟». فرَدَدْتُ والغضب ينبجسُ في نفسي: «من خاض تجربة موت لا يمكنهُ أن يُخبرَ الأحياء...». وظللتُ أفكر في مدى بلادته وسذاجته، غير أنني سمعته يتمتم: «للأسف الشديد.. للأسف الشديد لا زلتَ حياً». وفهمتُ أنه شرع في الحرب منذ هنيهة، غدْرا وبدون إنذار. وتمنيتُ لو أمسكتُ به وجعلتُ منهُ منديلا أُطهِّر به غرفتي من سائل بوله المتعفن. تمنيتُ لو انغرست أصابعي كالبراغي في قلبه.. تمنيتُ أشياء كثيرة حتى خُيِّل إليّ أني أفعلها، غير أني كنتُ أدرك بقليلٍ من الحدس المتبقي لدي أنه إنما يخيَّلُ إلي. أحسستُ بجسمي يتصلب شيئا فشيئا، يتكلّس، يتجمد ، يتحجَّر.. يتحول إلى تمثال حجري هَرِم. تصورتُني جثة غارقة بقعرِ محيط مظلم وقد أعافتها الحيتان. تخيلتُني جثة طريحة بمعركة قديمة ولازالت السهام الخاطئة تصيبها، ولا زالت أقدام الخيول المضطربة ترفسها. وتتساءل الجثة بين الفينة والأخرى: «ترى لو كنتُ حية أكانت ستقتلني هذه السِّهام؟». وما جدوى مثل هذا السؤال؟ تبدَّدت ذاكرتي وتبخرت مخيلتي، شعورٌ وميضي بالحياة وحدهُ بقي ينتابني، وبقيتُ أسمع فقط ملابسي، أدواتي، مخدتي، شمعتي،... كانوا يستعطفونه ويستنجدونه: «سيدي لا تقتله.. نرجوك ..». وحدها الصراصير لم تكن آبهة بمصيري، وظللتُ أصرخ بقوة: «أقتلني يا ابن ال... ماذا تنتظر؟». بيد أنني كنت أعتقدُ أن لا أحد يسمعني فقد كنتُ كجهاز إليكتروني ألغِي صوته. أحاطت سيوفه الصدئة السوداء بعنقي، وكان مَخَاطه الصديدي يتطاير فوق وجهي وكنتُ أعرف أن ذلك سيكون مقزِّزا، غير أنني كنتُ سعيدا، ولأول مرة، بفقداني لحواسي. ثم شعرتُ كأن خطابه رُمِي بذهني دون الحاجة إلى حواس: «ليست لدي أوامر بقتلكَ يا ابن..». ففهمت من ذلك أنه يسمعني، وتمنيت لو كانت حتى العناكب تسمعني.