حكايات واقعية عاشتها، أو عايشتها، قارئات «المساء» ممن اخترن إخراجها من الذاكرة إلى الحاضر، ومن الكتمان إلى العلن علها تفيد أخريات. حلقات ننشرها هذا الصيف، لنساء يرغبن في اقتسام فرحهن كما حزنهن، نجاحهن كما فشلهن مع القراء. بدأت حديثها معي قائلة: حكايتي غريبة، تودين سماعها؟ أجبتها بالإيجاب، فابتدأت قائلة: حكايتي ليست مع زوج أو أب أو أم ... حكايتي مع نفسي، وهي تنبع من داخلي وتبسط خيوطها على كل حياتي، فعلى مدار عمر بكامله تبنيت الكذب وفنونه وهجرت الصدق وصفاته، تارة لإثبات وجودي وتارة أخرى لإرضاء غروري وكثيرا لأكذب على نفسي. قبل أيام أكملت الثلاثين، وطيلة هذه السنوات التي تشكل خلالها عمري لم أتوقف عن الكذب حتى بت بارعة فيه، جمعتني به علاقة قوية منذ حداثة سني، أتذكر أنني كنت أكذب ولا أكف عن الكذب، كانت أحوالنا متواضعة، ولدت في بيت كنا فيه اثنين ثم صرنا خمسة وبعد ذلك ثمانية إناثا وذكورا. تزايد العدد حرمنا من العديد من الأشياء، والدي بالكاد كان يؤمن لنا لقمة العيش، والدتي كانت تجاهد لأن توفر لنا ما استطاعت لكي لانجوع ولا نعرى. كنت صغيرة ولم تكن حاجتي تتعدى ما يفرح الصغار، لكن عندما بدأت أذهب إلى المدرسة ابتدأت معاناتي تظهر، أصبحت أطمح لما أراه في يدي زميلاتي وصديقاتي من ملابس وأحذية ومقتنيات وكل شيء. كنت أشكو حرماني لوالدتي وأسألها لماذا ليس لي ما يتوفر لصديقاتي، فأحس بها تتألم في صمت لأنها ترفض أن تخبرني بأي شيء، تكتفي بالقول إنه على الإنسان أن يقبل بنصيبه في الحياة، لم يكن كلامها يقنعني، ردودها الفضفاضة التي تتسع لكل شيء كانت تزيد من حيرتي وتساؤلاتي وتجعلني أفهم الأشياء كما أريد. كنت لا أنام الليل وأنا أشاكس وأخطط للطريقة التي تجعلني أحافظ على موقعي في المدرسة بين زميلاتي ممن حباهن الله بأسر توفر لهن حسن المظهر، كان ذلك أمرا مهما بالنسبة إلي أن تكون لي ملابس كثيرة أغيرها كل يوم وتكون لي أحذية وليس حذاء واحدا فقط أقضي به السنة الدراسية بكاملها. لأجل ذلك اهتديت لفكرة سرقة المال على قلته من جيب والدي، كنت كل يوم أسرق مبلغا بيسطا لأوفر ثمن أشياء أحتاجها، كانت والدتي تسأل من أين لي بها، فأخبرها كذبا أنني استلفتها من عند إحدى صديقاتي، لم أكن أكذب على والدي فقط حين كنت أقوم بذلك بل أكذب أيضا على زميلاتي، كنت أخبرهن أن والدي أهداني كذا وكذا لأنني حصلت على نقطة جيدة. كنت أصوره لهن بالصورة التي أتمنى أن يكون عليها، والد مهتم يحفز أبناءه ويقدم لهم الهدايا إثر حصولهم على نتائج جيدة. والحقيقة أنه لم يكن كذلك، لم يكن يعرف حتى المستوى الذي أدرس فيه، كان يكتفي فقط بسؤالي آخر السنة: هل نجحت؟ لم أكن أستطيع أن أظهر تذمري من وضعيتي أمامه، كان ما إن يسمع ذلك من خلال كلامي مع والدتي حتى يخرج، لكي لا يحس بأثر عجزه. مضت بي الأيام هكذا طيلة أيام الدراسة الابتدائية، الإعدادية، الثانوية، والجامعية، كان والدي يشتغل حارسا في مدرسة خاصة وكنت أخبر الكل بأنه يعمل مفتشا، كنا نسكن بيتا أرضيا من غرفتين ضيقيتن وصالة ومطبخ لكنني كنت أخبر صديقاتي أن لنا بيتا من طابقين ولم أنس يوما خلال أحاديثي معهن أن أورد جملة «الدار الفوق والدار لتحت». كنت أكذب وأعرف أن كل ما أقوله كذب لكن المصيبة أنني أصبحت أصدق كذبي بل صرت أكذب على نفسي. على هذه الحال مضت حياتي، عشت بين الحرمان القاسي ومشاكستي لأظهر بغير حقيقتي إلى أن تخرجت من الجامعة. لم أكد أشعر باللحظة الفاصلة بين كوني طالبة أحمل شهادة جامعية «إجازة في الحقوق»، ماذا سأفعل بها، عشت حالة نفسية صعبة، فراغ وخوف من الغد، مستقبل مظلم، وأفق مسدود. لكن ولحسن الحظ سأقرأ يوما في الجريدة عن إعلان لمباراة مفتشي وزارة المالية، فأتهيأ بكل ما أوتيت من جهد لاجتيازه. بالفعل لم يذهب جهدي سدى، فقد كانت النتيجة إيجابية لأصبح موظفة بسلك مرموق، مفتشة مالية، فبدأت أخيرا النقود تعرف طريقها إلى جيبي، أصبحت أتقاضى راتبا محفزا، شعرت أخيرا براحة نفسية وفرح كبير، تولدت لدي أحاسيس بالمتعة والسرور بالتجوال في المحال التجارية لأمتع نظري بكل الأغراض المعروضة وأحلم أنني أرتديها صرت أقتني كل ما يعجبني. كان هذا الإحساس يولد لدي حالة من النشاط والانتعاش. أصبحت أغير مقتنياتي وأجدد ثيابي وأسافر وأعيش ما حرمت منه، عوضني المال عن كل شيء وأنساني نفسي. مع الوقت لم يعد راتبي يكفيني لبلوغ مطامحي، لم تكن لدي أية مخاوف من المشاكل المالية حين توجهت لطلب القروض، اشتريت شقة وسيارة فاخرة لأجدني مرهقة بالديون، افتقدت لذة النوم بسببها وطعم الحياة، فبالرغم من أن راتبي محترم إلا أن ديوني أصبحت مرهقة، أقساط مرتفعة أؤديها كل شهر لقرض السيارة وقرض البيت وأقساط أخرى مرتفعة لقروض كنت قد أخذتها لشراء مقتنيات وحاجيات غير ضرورية لي. ما تبقى لي من الديون أكاد أسد به الرمق. أعيش في أزمة اليوم، مأزق الديون وكيف أخرج منه جعل نفسي قلقة ومتوترة لا تعرف الهدوء، أنام على المهدئات. المظهر الذي كنت أحاول جاهدة أن يبقى لماعا براقا أصبح شاحبا ضبابيا وقاتما، لم تعد الأشياء هي الأشياء كم هو صعب أن تعيش للآخرين، أنا لم أختر هذه النفس التي سجنتني في سجن اسمه الزيف والكذب للظهور بمظهر راق ولكنه قدري أن أكون كذلك.