يجمع إلياس العمري بين عضوية المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وصفتي المناضل الجمعوي ورجل الأعمال. إنه من أسرة ريفية محافظة، لم يمنعه تشبعه بالأفكار اليسارية، منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، من نسج علاقات توصف بالأخطبوطية داخل أجهزة الدولة. يستعيد العمري، من خلال هذا الحوار، ذكريات الطفولة وأقوى لحظات مساره. - ولدت في فاتح يناير 1967، هل يمكن أن نقول إن ولادتك جاءت في ظروف عصيبة؟ < أنتمي إلى الجيل الذي يسميه المغاربة بجيل النكسة. ولدت في إمنود التابعة لجماعة النكور التي تعني المنطقة المسقية. كنا نعيش بشكل طبيعي رغم تعدد أفراد الأسرة، فأبي كان يعمل في مصنع للآجر قبل أن يصبح فقيها في الدوار سنة 1975، وهو الابن الوحيد لجدي الذي كان من أعيان المنطقة، ولذلك حظي بفرصة للدراسة في المعهد الأصيل في تطوان قبل أن يلتحق بجامعة القرويين بفاس. كما أنه كان يتدخل، بصفته عالما درَس الحساب، في قضايا توزيع الميراث، وكان آنذاك بمثابة الطبوغرافي كما نعرفه اليوم، زيادة على كونه أتقن تشذيب الأشجار. - سليل أسرة محافظة ونجل فقيه ينتهي به المطاف في أحضان اليسار الجذري. كيف ذلك؟ < تبنيت أفكار اليسار الجذري منذ سنتي الأولى في إعدادية بإمزورن سنة 1980. لكن شيئا واحدا كان يشغل بالي حينئذ: لماذا سماني أبي إلياس، رغم أن هذا الاسم مسيحي وغريب عن المجتمع المغربي؟ لم يمهلني الموت مزيدا من الوقت لأسأله. لكنني اكتشفت أن أبي أطلق على أبنائه أسماء حداثية، مثل: سمير، ونناديه مسلما لأنه ولد مختنا، وفؤاد وإلياس.. بالمقارنة مع الأسماء التي كانت سائدة في القبيلة مثل: حمادي، شعيب، قدور، موح.. - وعلامَ ساعدك اسمك؟ < لم يدفعني فقط إلى التفكير فيه كما أوضحت ذلك، وإنما دفعني أيضا إلى الإقبال على قراءة الإنجيل والأعمال النقدية للفكر الديني من «التاريخ المحرم» لأبي علي ياسين إلى «النزعات المادية» لحسين مروة، مرورا ب«نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم. غير أني تأثرت كثيرا بكتاب «الماركسية والدين» لفيصل الدراج الذي حسم في اعتناقي الأفكار اليسارية. ويقارن الدراج في هذا الكتاب بين سلطة الله وسلطة السلطان؛ للأول الجنان وللثاني القصور، لأحدهما جهنم وللآخر السجون وعوض الملائكة عند الله نجد مصالح الاستعلامات وأجهزة الاستخبارات لدى السلطان، ليخلص إلى أن المستبدين في الأرض هم الذين اصطنعوا للإله هذه الصورة لتبرير استبدادهم في البسيطة بآخر في السماء. - ما هي أسوأ ذكرى تحتفظ بها عن طفولتك؟ < تعود إلى اليوم الذي التحقت فيه بمدرسة الدوار حينما ألصق المعلم صورا في السبورة ليعلمنا الحروف الأبجدية، حين وصل إلى صورة البقرة، طلب الكلمة بإلحاح، وقلت إنها «تافوناست»، وظللت طيلة الحصة أكرر هذه العبارة ظنًّا مني أن المعلم على خطأ رغم مطالبته لي مرارا بالتزام الهدوء، ولما حسِب أني أفعل ذلك لمجرد إزعاجه، وجه إلي صفعة قبل أن يدفعني بقوة، فسقطت أرضا، وأصبت إصابة بليغة في رأسي أبعدتني عن الفصل ل4 أو 5 أشهر. ومن طرائف طفولتي أيضا أنني كنت أحلم بأن أصبح دركيا. - كانت لديك ميولات نحو امتلاك السلطة حتى في تلك السن المبكرة؟ < أبدا، كنت أحلم فقط بأن أصبح دركيا لكي يتمكن شباب الدوار من مشاهدة سلسلة «طارزان» دون أن ينظفوا السوق الأسبوعي. في تلك الفترة، كان شبان القرية يجتمعون في المقهى المتوفر على جهاز التفاز الوحيد في الدوار لمشاهدة سلسلة «طارزان» التي كانت تبثها إحدى القنوات الإسبانية ابتداء من الساعة الثالثة بعد زوال كل سبت. وقبل نهاية الحلقة بربع ساعة، يأتي الدركيون بشاحنة يأخذوننا فيها جميعا لقضاء الليلة كلها في تنظيف السوق، لنعود في الصباح إلى ديارنا مشيا على الأقدام مسافة 5 كيلومترات، ولما أصبحت مشاهدة سلسلة «طارزان» مرادفا لتنظيف السوق، تمنيت أن أصبح دركيا حتى يتمكن جميع الشبان من مشاهدة السلسلة دون أن تنزل بهم أي عقوبة. - وبعد ذلك، انتقلت إلى إمزورن.. < في إمزورن، وعيت بأن الإنسان لا قيمة له في المغرب. فقد كانت تقدم إلينا في داخلية الإعدادية، التي كنت من بين قاطنيها، قهوة لا يمكن ارتشافها. ولم أكن أعلم بوجود مخبرين حتى في صفوف التلاميذ، فقلت لبعض الرفاق إن تلك القهوة تشبه عصيرا معدا من «النخالة»، وعندما كنت أهُمّ بالدخول إلى القسم في الساعة الثامنة، استدعاني المدير، فأشبعني ضربا، وقال لي بالحرف: «هل تقدم لك أمك مثل هذه القهوة في منزلكم؟ وبعدها طردني من الداخلية. ومن ثم دشنت مرحلة جديدة توجب علي فيها البحث عن مأوى، والاعتماد على نفسي في غسل الملابس وإعداد الأكل، زيادة على التعامل مع الأكبر مني سنا، فعزمت على أن أكون ذا شأن، وشرعت في التهام الكتب. ولازلت أتذكر أن أصدقائي أحصوا 930 كتابا قرأتها في ظرف ثلاث أو أربع سنوات. ولا أخفي أنني تأثرت كثيرا بشخصية أستاذ الفيزياء، عيسى بويازيغن. - كيف أثر عيسى بويازيغن على مسارك؟ < تعرفت عليه عندما كنت أتردد على جمعية البعث الثقافي التي كان على رأسها عبد العالي المعلمي إلى حين حظر نشاطها سنة 1984. كنت أجلس مع عيسى بويازيغن رفقة أساتذة آخرين، لكنه كان يأمرني بالانصراف حوالي الساعة السابعة مساء، فقررت أن أواظب على المطالعة حتى أكون في مستوى مجالستهم. ولما أخبرت بويازيغن بذلك، فرض علي نظاما صارما: يعيرني كتابا، أقرؤه في يومين أو ثلاثة وأعد ملخصا له قبل أن نتناقش معا في شأن مضمونه. ابتدأنا ببعض القصص القصيرة وقصائد محمود درويش، ثم مررنا إلى الروايات، حيث قرأت في تلك الفترة معظم روائع أدب السجون، من قبيل: «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، و«وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، و«أعواد المشنقة» من أدب أمريكا اللاتينية، و«أنشودة الشباب» للحزب الشيوعي الصيني، زيادة على بعض الإبداعات المغربية، مثل: «كان وأخواتها» لعبد القادر الشاوي و«مذكرات سجين من قلميمة» (بالقاف وليس بالكاف) لمحمد الكتاني...