جاء الخطاب الملكي ليوم 30 يوليوز 2008، بمناسبة الذكرى التاسعة لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المغرب، مليئا بالدلالات والإشارات التي نتمنى أن تلتقطها الحكومة باعتبارها الأداة التنفيذية من أجل الشروع في تنفيذها تأكيدا للنهج الذي يريده الملك محمد السادس للمغرب، كبلد ديمقراطي يسعى إلى ترسيخ هذا الأمر، خاصة وأن الرهان اليوم أصبح على تكريس هذا المبدأ، من أجل تحديث وتنمية كل مجالات الحياة العامة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وإذا كانت الإشارات التي حملها الخطاب الملكي في مجملها مرتقبة، على اعتبار أن هذا الخطاب يعتبر بمثابة خارطة طريق تمكن الحكومة من وضع تصورها لما ستقوم به مع الدخول السياسي المقبل، خاصة في مجالات التربية والتكوين والملفات الاجتماعية، هذا دون أن نغفل ملف الانتخابات القادمة التي ربطها الملك محمد السادس بضرورة العمل من أجل تكريس الشفافية والنزاهة من طرف الفاعلين السياسيين، فإن تأكيد خطاب العرش على أحد الملفات الأساسية التي شكلت مجالا للسجال بين مختلف المتدخلين خلال الشهور الأخيرة، يمكن اعتباره بمثابة ضوء ملكي أخضر من أجل الشروع في إصلاحه بما يضع الجميع في مرتبة واحدة، وأعني به القضاء الذي خصص له الملك في خطاب العرش حيزا هاما بدعوته الحكومة إلى «الانكباب على بلورة مخطط مضبوط للإصلاح العميق للقضاء، ينبثق من حوار بناء وانفتاح واسع على جميع الفعاليات المؤهلة المعنية»، حسب ما جاء في الخطاب الملكي وذلك من أجل «بلوغ ما نتوخاه للقضاء من تحديث ونجاعة، في إطار من النزاهة والتجرد والمسؤولية» يؤكد الملك. ومن خلال استقراء هذه المضامين، فإنه لا بد من التأكيد على أن المؤسسة الملكية أصبحت اليوم تحل محل الحكومة في هذا الخيار، خاصة وأن من بين أهم مبادئ الدولة الديمقراطية نجد أن استقلال القضاء عن كل مراكز القرار يعد حجر الزاوية، وبالتالي فإن ما جاء في الخطاب يمكن اعتباره بمثابة جرس إنذار لما يعرفه هذا الجهاز من اختلالات اقتضت في عدد من المرات تدخل الملك شخصيا من أجل إصلاح بعض من الأخطاء التي يرتكبها والتي غالبا ما تسيء إلى سمعة المغرب، كما هو الشأن بالنسبة إلى عدد من الأحكام التي تم النطق بها في عدد من محاكم المملكة وتم إصدار عفو ملكي بشأن المحكوم عليهم أو تخفيض مدة العقوبة بل وحتى النطق بالبراءة في بعض الأحيان. وبالتالي، فإن الملك بدعوته إلى تنزيه القضاء عن الأهواء الشخصية يكون قد وضع الكرة في مرمى القائمين على شؤون هذه السلطة، وعلى رأسهم وزير العدل، الذين نتمنى أن يكونوا قد التقطوا ما يريده الملك لإعادة الحق إلى نصابه، خاصة وأن «العدل هو أساس الملك» الذي يقوم اعوجاجات كل مسؤول عن ملف من الملفات التي تناط بهذه الحكومة. فالدعوة الملكية إلى إعداد مخطط لإصلاح القضاء لم تأت إذن من فراغ أكثر مما أضحت تعبر عن حاجة مجتمعية إلى جهاز شفاف يقف أمامه المواطنون دون ميز، مهما كانت مسؤولياتهم الوظيفية أو علاقاتهم الاجتماعية، خاصة وأن ذات الخطاب أورد حرص المغرب على ضرورة العمل من أجل توسيع وتعزيز مكانة الطبقات الوسطى التي يعول عليها المغرب من أجل ضمان بناء مجتمع متضامن، وهو ما أشار إليه من خلال تأكيده على أن هذه الطبقة سوف تكون «مرتكز المجتمع المتوازن الذي نعمل على بلوغه، مجتمع منفتح، لا انغلاق فيه ولا إقصاء، مجتمع تتضامن فئاته الميسورة باستثماراتها المنتجة ومبادراتها المواطنة وما تدره من شغل نافع، مع غيرها، في المجهود الوطني الجماعي، للنهوض بأوضاع الفئات المعوزة وتمكينها من أسباب المواطنة الكريمة». وبالتالي، فإن الوصول إلى المواطنة الكريمة ينطلق من وجود جهاز قضائي غير انتقائي وعادل لا ينطق بأقسى الأحكام في حق جزء من الشعب في الوقت الذي يتغاضى فيه عما يرتكبه جزء آخر من أفعال دون أن ينال العقاب اللازم. من ناحية أخرى، وفي ظل المحاولات التي تقوم بها بعض الجهات من أجل تأزيم ملف الصحراء المغربية، كان خطاب العرش مناسبة لتأكيد تشبث المغرب بحل هذا الملف من خلال إعلان الملك نهجه لسياسة «اليد الممدودة بهدف إصلاح ذات البين وترسيخ الثقة، بالحوار والمصالحة الشاملة، مع الأطراف المعنية بقضية الصحراء»، وهو ما يعد ردا على دعوات إيقاف المفاوضات مع المغرب والتي تحاول بعض الأطراف التي ليس من مصلحتها حل هذا الملف إذكاءها بهدف تأبيد الصراع بالمنطقة، وذلك في إشارة إلى الطرف الجزائري الذي لا يريد أن يستوعب أن حل هذا الملف سيفتح الباب من أجل تطبيع العلاقات المغربية - الجزائرية وإقامة شراكة بناءة مع هذا البلد الجار الشقيق، وبالتالي، حسب ما قاله الملك «الوفاء لروابط حسن الجوار، بين شعبينا الشقيقين، هدفنا الأسمى التجاوب مع طموحات الأجيال الصاعدة لتسخير طاقات الشعبين الشقيقين، المغربي والجزائري، لرفع التحديات الحقيقية للتنمية والتكامل، بدل هدرها في متاهات نزاع موروث عن عهد متجاوز يعود إلى القرن الماضي». فالمغرب ما فتئ يستغل كل مناسبة من أجل تأكيد سعيه إلى فتح قنوات التفاوض من أجل إيجاد حل سياسي توافقي للنزاع في الصحراء المغربية، غير أن استمرار الترويج لوهم الانفصال ومحاولة فرض الأمر الواقع لن يغير في الأمر شيئا، خاصة في ظل الإقرار الأممي بمصداقية وجدية مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب. وإجمالا، يمكنني القول بأن الخطاب الملكي لعيد العرش هذا العام يجعلنا نطرح سؤالين مهمين حول هذين الملفين وأعني بهما أساسا الصحراء والقضاء، حول ما إذا كانت الإشارات الملكية التي حملها إيذانا بالانكباب على إيجاد حلول نهائية وناجعة لهما، خاصة في ما يتعلق بالقضاء الذي نتمنى أن يكون لنا جهاز نفتخر به ويضع بلادنا في مصاف البلدان الديمقراطية والتي تتمتع بالنزاهة والشفافية في الفصل بين الناس دون ميز أو تحيز.