كان سيِّد شارع محمد الخامس في الرباط بامتياز. لا تكتمل تضاريس وجاذبية المكان من دون حضوره اللافت. كان الشارع حدا فاصلا بين المدينة العتيقة وامتداده الأوربي، يوم لم يكن أحد يغادر الأسوار إلا متسللا أو بإذن خاص. غير أن الرجل القادم من قرية ريفية وجد لنفسه مكانا تحت ظلاله. جلباب أبيض وطربوش مخزني أحمر وعصا يزهو بها في مشيته ولا يلوح بها. بابا نويل، على الطريقة المغربية، يجوب الشارع ويسمح بالتقاط الصور إلى جانبه من زوار المدينة. إنه سلطان باليما. رجل يعرفه الجميع ولا أحد يحفظ اسمه الحقيقي المسجل في كناش الحالة المدنية. غير أن سجلات المحاكم تحتفظ بواقعة فريدة في نازلة احتيال أدين فيها الرجل بحكم قضائي يحظر عليه ارتداء الجلباب التقليدي مدى الحياة. إليكم بعض أسباب النزول. امتطى الرجل سيارة مرسيدس سوداء اللون، كانت مخصصة للعبور بين عدوتي الرباط وسلا. لا أحد علم كيف أقنع سائقها بنزع علامة سيارة الأجرة. المهم أنه كان يعرف طريقه إلى الهدف.. ضيعة فلاحية في منطقة الغرب المشهورة بزراعة البرتقال. كان موسم القطاف بلغ حلقومه. دلف المكان يبحث عن صاحب المزرعة، وحين اقترب منه هذا الأخير وضع سلطان باليما، بلباسه التقليدي، يده في جيبه وأخرج ورقة صغيرة زعم أنها صادرة عن إدارة رسمية، قال إنها تحوي مؤاخذات حول نزاع قديم يخص المزرعة وورثتها من أبناء عمومته. كان صاحب المزرعة يصغي بإمعان قبل أن يطلب إليه التدخل. روى سلطان باليما أنه اشترط مقابلا ماليا، وانتهى الكلام إلى تخصيص غلة ذلك الموسم لفائدة الوسيط الذي فهم أنه شخصية متنفذة. في اليوم الموالي، كانت الشاحنات تغرف الغلال التي باعها سلطان باليما في أحد الأسواق، ولم يفطن صاحب المزرعة إلى أنه كان ضحية خديعة إلا حين استلم استدعاء من المحكمة، ولم يشفع له أنه دفع رشوة لشخصية كبيرة ظل يبحث عنها دون جدوى. هذه واحدة. تقول حكاية أخرى إن سائحا أوربيا كان يزور المدينة العتيقة في الرباط. ولاحظ صاحبنا، الذي يعتقد أنه كان يترصد خطواته، أنه توقف أمام مدفع قديم نصب على شرفة إحدى القلاع. تقدم منه سلطان باليما يسأله إن كان يريد اقتناءه، فقد ادعى أنه مسؤول عن المتاحف، وناقشه في سومة البيع. في اليوم الذي كان فيه ذلك الأجنبي بصدد اقتلاع المدفع، وقف عليه أصحاب الحال، فأدرك أنه وقع في شرك محتال من الطراز الرفيع. لم يعد شارع محمد الخامس هو نفسه، فقد كانت مقهى باليما، التي ارتبط بها اسم سلطانها، تتخذ موقعا قبالة محكمة الاستئناف، قبل أن تصبح مقرا لمجلس النواب، وكان سلطان باليما يصطاد طرائده من بين الغارقين في نزاعات المحاكم، فقد كان يعرف كيف يختار ضحاياه، مثل صياد يرقب طبائع طرائده، إذ يكفيه أن يشهر الضوء في وجه أرنب أو يرمي بحجر في النهر. لذلك فقد كان يبعث بمن يشيرون إلى أصحاب النزاعات بالتماس تدخله. بيد أن سلطان باليما لم يكن يغري ضحاياه فقط، وإنما كان يبيع خدماته الإخبارية. كان يستيقظ على نشرات أخبار هيئة الإذاعة البريطانية ويتجول بها على المتلهفين. ونقل عنه القول، مرة، وهو يعلق على قمة عربية مصغرة: لا تنتظروا شيئا من اجتماع الغابة، وشرح ذلك بمباحثات ضمت أسدا وفهدا ونمرا، في إشارة إلى الراحلين حافظ الأسد وفهد بن عبد العزيز وجعفر النميري. لكنه كان يميز بين الأخبار العربية والمحلية. وحين رفض أحدهم منحه ما تيسر من العطاء، أقسم على ألا يُعين سفيرا، وكل ما فعله أنه لوث سمعته بين الناس بالكلام المباح وغير المباح. كان سيد الشارع بامتياز، يبدأ نهاره في السادسة صباحا وينهيه في نفس التوقيت مساء، ولم يكن يضجر من شيء أكثر من تناسل المتسولين وماسحي الأحذية. لكنه مثل ماركة مسجلة، ارتبط اسمه بمقهى باليما وارتبطت به أصناف من الحكايات، ليس أبعدها أن شخصيات هامة حضرت إلى حفل في مناسبة عيد ميلاده بدافع الفضول. وربما ما ساعده في فتوحاته أن شارع محمد الخامس لم يكن تحول إلى هايد بارك مغربية. فقد كان الوزراء وكبار المسؤولين يعبرونه، دون خشية من أن تعترضهم مطالب الشبان حملة الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل. ذاك زمان وهذا آخر، فقد ارتضى سلطان باليما حكما يحظر عليه ارتداء اللباس التقليدي، لما كان يرمز إليه من دلالات في عالم النصب والاحتيال. غير أن الأمر لم يعد اليوم يقتصر على اللباس التقليدي، فالنصابون والمحتالون اكتسبوا معارف وخبرات جديدة وأصبحوا سلاطين من نوع آخر لا تخطئه العين، ولكن يخطئه العقاب. افتقد شارع محمد الخامس نكهته، فقد كانت القهوة السوداء قبالة البرلمان تجمع سياسيين ومثقفين ومبدعين ورياضيين يتداولون في الشأن العام، وكانت عين سلطان باليما تحرسهم وتتصيدهم على طريق الرجل الذي غاب من غير أن يعرف أحد اسمه وعنوانه الكاملين، فقد كان ذلك جزءا من أسرار مهنة لن تنقرض.