لعل من بين الإشكالات والاختلالات التي راكمها الفعل الحزبي في المغرب مركزية التدبير الحزبي على الرغم من إخضاع تنظيمات الأحزاب لتقسيمات جهوية ومحلية وفق ضوابط وقواعد انتظامية، مما جعلها «نخبوية المنشأ»، حيث نجد غلبة القيادة الحزبية على كل مقاليد الحزب والاستئثار بكل المجالات التنظيمية والتسييرية وفرض نوع من التحكمية على الأجهزة الحزبية المركزية واللامركزية، وضعف التواصل بين المركز والأطراف، واشتغال مختلف الأجهزة المحلية تحت طائلة الإملاءات واللاءات التي تفرضها القيادة وإن كان يتم، في الظاهر، تسويق العكس، مما تمخض عنه ضعف الديمقراطية الداخلية وكثرة الخلاف والشقاق، وهو ما أفضى أيضا إلى ما يعرفه المشهد الحزبي من انقسامية وتشرذمية وتفككية الأوصال، لكن يبقى الإشكال المحوري هو تجلي التباعد واتساع الهوة بين القيادة والقواعد الحزبية. وحالٌ كهذا زاد من محنة الأحزاب على مستوى التأطير والتكوين وضعف استقطاب الأعضاء واستمرارية الهدر حتى في صفوف الأعضاء المنتمين. كما أن هذا المنحى، الذي أضحى يدمغ المشهد الحزبي، تولد عنه وضعا أضفى نوعا من «الستاتيكية»على مستوى دوران النخبة الحزبية، حيث حضور محوري لأعضاء معينين واستئثارهم وهيمنتهم على كل مقدرات الحزب، وتوظيفهم لسلطاتهم التقريرية خدمة لمآربهم ومصالحهم، بحيث تظل كل الأمور الحزبية تدور في فلكهم، مما يسهم في نشوء نوع من السلطوية في تدبير شؤون الحزب يتزعمها قادة الحزب والمريدون الموالون لهم المستفيدون من كراماته ونعمه. إن هذه الفوقية الاستئثارية/الانفرادية في بلورة القرار الحزبي، إن على مستوى المعطى التنظيمي أو في ما يرتبط بالتعاطي أو التعبير عن مواقف بخصوص قضايا وطنية، كان لها بالغ الأثر على القدرة الاقتراحية والتأثيرية للأحزاب في الفعل العمومي وفي صناعة السياسات العامة، طبعا مع استحضار قيود ومؤثرات أخرى تتعلق بما هو دستوري/قانوني، مما أسكن الأحزاب في حالات الترهل والضعف وأفقدها كل إمكانات النهوض والصحو من الغفوة. إن الأحزاب الحقيقية هي التي تتشكل من رحم المجتمع، حيث تشكل القاعدة الشعبية رصيدها الدعائمي والإسنادي في العمل والاشتغال وتعبر عن نبضها وتنشغل بانشغالاتها وتتفاعل مع طموحاتها وتطلعاتها. وقد أكدت التجارب والممارسة الحزبية أن الأحزاب الغريبة /المغتربة عن المجتمع لا تعمر طويلا حتى وإن كانت ترعاها السلطة، حيث سرعان ما يتم استنفادها وتنقضي مدة صلاحيتها لأن وجودها مرتبط بهدف معين، بغض النظر عن طبيعته وحجمه، وينقضي بانقضائه. إن البناءات الحزبية القاعدية المحكمة والمنتظمة في شكل هرمي تنازلي/تصاعدي تشكل النواة الأساسية في بناء حزب قوي وفعال، وتمنحه كل أساسيات الفعل في المجال السياسي، فالتأطير القاعدي يشكل المنهل المغذي للحزب من حيث توفير النخبة الكفأة القادرة على المشاركة الفعالة في تدبير الشأن العام، خصوصا إذا كانت هناك قواعد مسطرية شفافة متبعة للارتقاء داخل الأجهزة التقريرية الحزبية، بحيث تكفل النفاذ إلى مواقع المسؤولية في الدولة أو خلق نخبة في مستوى الرهانات والتحديات قادرة على تشكيل جبهة معارضة للسياسات الحكومية التي لا تخدم مصالح المواطنين بالدرجة الأولى، وامتلاكها لقدرات طرح البدائل والحلول ممكنة التحقيق. ومما لا شك فيه أيضا أن الأحزاب التي تفتقر إلى قاعدة جماهيرية تكون أكثر عرضة للاختراق واحتواء نخبها من طرف السلطة بحكم نخبويتها، ذلك أنه من السهل جدا بفعل عوامل الترهيب والترغيب تطويع نخبها وتدجينها بما يخدم الأجندة السياسية للسلطة، عكس الأحزاب ذات الرصيد الجماهيري والقوة المجتمعية التي تكون أكثر مناعة وتحصينا ضد كل المغريات والأخطار والوعيد كيفما كانت طبيعتها. إن تنمية الأحزاب السياسية وتعزيز تنافسيتها السياسية يقتضي الاستثمار الجيد في مسألة البناء القاعدي، أي من الأسفل إلى الأعلى، حيث يجب أن تكون العملية ديناميكية مستمرة من خلال التمكين السياسي واللوجستي للأجهزة الحزبية المحلية، وإمدادها بكل أدوات العمل في التأطير والتكوين واستقطاب الأعضاء الجدد، من أجل تكيفها ومحايثتها للتحديات المطروحة، خصوصا في ظل الحديث عن تبلور ما يعبر عنه ب«دولة المحليات» على مستوى النظم الدولتية المقارنة التي قطعت مع نمط الدولة التقليدية. كما أن الأحزاب المغربية أمام تحدي تطبيقات الجهوية الموسعة، وبالتالي فهي مدعوة إلى الانسلاخ عن هذه المركزية الشديدة المغلقة وتعزيز القدرات التنظيمية والتنافسية على المستوى المحلي/القاعدي. فالأحزاب المغربية اعتمدت على قاعدة «الاستقطاب الأفقي» الذي يتناغم مع عملها الموسمي الانتخابي والذي يقوم على أساس استقطاب النخب الحزبية القائمة والتي تتشكل في الغالب من الأعيان، وهي الفئة المتمرسة على كسب الانتخابات بفعل الجاه والمال، والتي يعوزها الالتزام الحزبي وتحزم أمتعتها وتشد رحالها من حزب إلى آخر بمجرد أن تتعارض أية «إقامة حزبية» مع طموحاتها الشخصية، مقابل ذلك نجد تهميش أعضاء الحزب وركنهم. إن النظم الحزبية المقارنة تستند في اشتغالها إلى القواعد الحزبية وتسخر كل الإمكانات المالية والبشرية لتكوينها، لتشكل خزانا من الأعضاء يمكن الارتكاز عليهم في جل الاستحقاقات الانتخابية والسياسية، ومن جهة أخرى لضمان قوة الحزب واستمراريته وفعاليته، فقوة الحزب من قوة أعضائه. وهنا نستحضر، على سبيل الاستئناس، التجربة الحزبية الأمريكية، حيث يخلص «تيب أونيل» (عضو برلماني أمريكي) إلى القول بأن «القاعدة الأساسية أولا» في أي فعل حزبي ومن أجل بناء أي حزب ناجح، حيث غدت السياسات المحلية تكتسي أهمية بالغة في تدبير الشأن العمومي. فالبناء القاعدي للحزب يستلزم اعتماد التنظيم الجيد على المستوى المحلي وإحداث أجهزة وهياكل تنسجم مع الثقافة التنظيمية للحزب ككل وتراعي مسألة «التمايز البنيوي والتخصص الوظيفي»، وتحديد المسؤوليات والأدوار بدقة متناغمة ومتناهية، وتعزيز التواصل الداخلي والخارجي بهدف التنسيق والترابط من أجل الوضوح والشفافية في تحديد المسؤوليات، فالتجارب المقارنة أثبتت أن الاستثمار في البيئة التنظيمية المحلية للأحزاب وتعزيز مقوماتها وبناءاتها أفضل من الاقتصار على توظيف الطاقات والأموال في الاستحقاقات الانتخابية فقط.. ولا شك أنه باستحضار وظائف الأحزاب تحضر بقوة مسألة التأطير الحزبي، فالأحزاب تعتبر مدارس حقيقية للتكوين والتنشئة وممارسة التثقيف السياسي للأعضاء والتربية السياسية السليمة لغرس قيم خدمة المصلحة العامة، وهي متطلب يجب أن يستهدف أعضاء الحزب محليا، من خلال القيام بمأسسة الورشات والمنتديات والدورات التكوينية، والاشتغال بنوع من الاحترافية من خلال الاستفادة من الخبراء الوطنيين والدوليين، واستقراء التجارب التكوينية والتأطيرية المقارنة. إن البناء القاعدي يستوجب استنفار بنيات التواصل الحزبي الذي يسترعي ضمان انتقال وتدفق المعلومات بين الأجهزة المحلية والهياكل المركزية بشكل تفاعلي/تبادلي، فالمكاتب المحلية للأحزاب مدعوة بشكل كبير إلى إيلاء الاهتمام لمسألة تبليغ المعلومات من خلال إنجاز تقارير دورية منتظمة حول مجمل الأنشطة على المستوى المحلي وتطوير الإعلام الحزبي المحلي، لأن المكاتب المحلية هي التي تكون أكثر ارتباطا بالمواطنين، مما يمكنها من الوقوف المباشر على احتياجاتهم ومطالبهم (استعمال أدوات تجميع المعلومات، من قبيل الاتصالات المباشرة، استطلاعات الرأي، استعمال تكنولوجيا المعلوميات، البريد الإلكتروني، المناقشات الجماعية الإلكترونية من خلال تقنية غرف الدردشة،...) التي تشكل مناطا لبلورة البرامج الحزبية وتنقيحها وملاءمتها، فاستراتيجية النضال الحزبي يجب أن تنبني على أساس القواعد الشعبية. ومن نافل القول أن الراهن السياسي وما يتخلله من اختلالات يشكل الدافع إلى التفكير في إحداث قطائع مفصلية مع كل ما يعْتور الفعل الحزبي المغربي من مثالب وضمور في الأداء التنظيمي والوظيفي، والانتقال من مركزية الفعل الحزبي إلى التدبير اللامركزي، ووعي الأحزاب بالمسؤوليات الملقاة على عاتقها، والانخراط الفعلي في النضال من أجل الديمقراطية التي تعتبر المعركة الحقيقية المرجو الظفر فيها، فما أحوجنا إلى «دولة القانون والمؤسسات بدل دولة رجال ونفسيات». عثمان الزياني - أستاذ باحث بالكلية متعددة التخصصات-الرشيدية