إن القارئ المتمعن في الأسس المبدئية والإنسانية التي كانت وراء خلاف ألبير كامو وجون بول سارتر لن يقف فقط عند مستويات خلاف الطروحات الأدبية والفلسفية للرجلين وإنما سيصل، حتما، إلى استدراك الخلاف السياسي بينهما، والمنبني على استعداد أحدهما للدخول في غمار الممارسات المؤسساتية للثقافة داخل كنف الدولة الاشتراكية (سارتر) ونفور الثاني (ألبير كامي) من أي تعاقد مؤسساتي ممكن، وهو نفسه الخلاف السياسي العميق، الذي جعل صداقاتٍ أدبيةً وفكرية تنتهي ما بين أدباء ومثقفين اختار بعضهم الدخول في غمار تجربة التصالح مع النظام ومؤسساته -بعد فترة نفور ومعارضة- بما تتطلبه عملية الرجوع من مجهودات فكرية «تبريرية» تتحول هي نفسها إلى ثقافة بينية مرحلية يطلق عليها النقاد «ثقافة تبرير الرجوع». المثقف وسط العاصفة الثقافية وفي ما يتعلق بالحياة أو بالممارسة الثقافية وتمفصلاتها السياسية (لأنه لا ثقافة بدون سياق سياسي يحركها أو يخرج منها) فإن الآراء والمواقف الفكرية تختلف حول مستوى عيش السياسي داخل الثقافي... حيث تتفرق عادة الطروحات إلى مذهبين: يسعى الأول إلى جعل الممارسة الثقافية في صلب الحركية السياسية، حيث يكون المثقفُ المحركَ الأصيل للجدل السياسي والمغذي لراهنيته. وعليه، لا يمكن للمثقف أن يضيع الفرصة للانخراط الثقافي عندما تصبح الأوضاع السياسية مواتية للدخول في غمار مأسسة الطروحات الثقافية سياسيا، من خلال الدخول إلى سلطة التنفيذ، وهو ما يجعل الدخول الثقافي غنيا ووافرا، عندما تتحرك الآليات الديمقراطية وتسمح بمشاركة سياسية موسعة لليسار، الذي يتجمع فيه أغلب المثقفين. أما الطرح الثاني -وهو أكثر راديكالية- فيؤمن بمبدأ اللاتصالح المطلق للمثقف مع أي نظام ممارِس للسلطة، ليس لأن المثقف يعاني من إعاقة الانطواء، بل لأن أي مشاركة نظامية للثقافة تكون خطوة نكوصية في اتجاه الاحتواء السياسي للثقافة، التي من مظاهرها الأساسية استثمار الثقافة لتبرير المشاركة السياسية -بلورة الطروحات الثقافية لتبرير واقع الخروقات واللا توازنات المجتمعية -تحويل الأزمة إلى ثقافة، ومن تم إلى واقع معيش أو أمر واقع -تحرير النظام والسلطة من عقدة النظرة النقدية للثقافة -الإفراط في ترويج النزعات الوطنية، ثقافيا وفلكلوريا... ويحذر هذا الطرح الراديكالي من مغبة سقوط المثقف في فخ «الجمهور» (Audience)، لأن العمل مع النظام والمؤسسات يُغري المثقفَ المشارك بإمكانيات وافرة لولوج الإذاعات والقنوات التلفزية والمجلات ويحظى بفرص تواصلية جمة توفرها صالونات السلطة (الأيام الدراسية -الندوات -الصالونات الثقافية -المهرجانات...) إن علاقة الثقافي بالسياسي -بالرغم مما توحي به من قابلية لنفاذ التحليل والتفسير- تبقى علاقة لها صفة جدلية، تتطلب آليات تحليلية مركبة (سياسية وثقافية معا)، وهي الآليات التي تستوجب الأخذ بمؤشرات ومتغيرات مختلفة لرصد تحركات وتمفصلات الثقافة في السياسة والعكس. ومن جملة هذه المتغيرات، الانتماءات السياسية للمثقفين وأنشطتهم النظامية (حزبية أو جمعوية أو داخل المنتديات والأندية...)، وصولا إلى متغيرات أعمقَ وأعقدَ، تتمثل في شكل الخطاب الثقافي وفي استنباط المواقف السياسية المعبَّر عنها ثقافيا، بل حتى العلاقات غير النظامية التي يعقدها المثقف داخل الوسط السياسي المغلق قبل المفتوح (الندماء -الجلساء -الأصدقاء...). هناك، أخيرا، متغير أساسي يشرح الممارسة السياسية للمثقف، وهي مرتبطة باتخاذ القرارات الشخصية (قبول مناصب استشارية أو مناصب مسؤولية داخل المؤسسات) أو قرارات مؤسساتية جماعية (كأن يقبل بعقد شراكة ما بين وحدة البحث التي يرأسها والجامعة أو إحدى الوزارات)... كل هذه المتغيرات كفيلة، بشكل أَوْضحَ وأمتنَ، بأن تعطينا خارطة الارتكاسات السياسية داخل الحقل الثقافي، علما أن المثقف اللا سياسي هو كائن عضوي غير موجود، وإن وُجد، يبقى كائنا مفصولا ومنعزلا. لكنْ، وبالرغم من الصعوبات المنهجية لرصد هذه الترابطات المختلفة بين السياسي والثقافي، فإن الواقع أو الممارسة الثقافيين في المغرب يبقيان واضحَي المعالم، من الناحية السياسية، ويرجع ذلك إلى عوامل تاريخية وسياسية وثقافية معروفة، وهناك على الأقل ثلاثة عوامل: أولا، وضوح الاستقطاب القديم ما بين المعارضة اليسارية الاشتراكية والنظام، الذي سهَّل عملية تموقُع الثقافة داخل السياسة، بل وجعل عمليات التصنيف السياسي للمثقفين مسألة ليست بالصعبة، حيث إن أغلب المثقفين -عند استشرافهم لاختلالات النظام وأدائه- يجدون أنفسهم في توازٍ مع فكر اليسار وأبعاده. وحتى إذا كان الانتماء والممارسة الحزبيان لا يثيران اهتمامات المثقف، بالأولوية، فإن أداء الثقافة خدم مصالح اليسار وحصلت شراكة -عرفية- بين المثقفين والاشتراكيين، وهو ما حذا بالنظام -في مراحل صراعه مع اليسار- إلى «اقتراف» إجراءات قمعية للطرفين المتعاقدين ضده. ويمكن تلخيص هذا العامل الأول في عبارة «توطد المعارضة يُسهِّل احتلال مواقع ثقافية واضحة». ثانيا، يشكل ضعف السلوك الثقافي للنظام، مقابل حاجته الماسة إلى الثقافة من أجل «تثقيف استمرارية السلطة»، واقعا سهَّل، نوعاً ما، تمَوْقُعَ الثقافة داخل السلطة، حيث أصبحت لها سلطة داخل السلطة، بحكم ترهُّل المؤسسات الكبيرة التي خلقتها الدولة (جامعات -مكتبات -نَوادٍ...) وغياب الطواقم البشرية المثقفة اللازمة لتسييرها. فوجد المثقف فرصا سانحة ومناصبَ شاغرةً مواتية كان لاندماجه فيها أثر على مساره الشخصي، ومنه على المنظومة الثقافية ككل، باعتباره أحدَ المساهمين فيها، إذ إن «فراغ المؤسسات النظامية يُسهِّل، عادة، استقطاب الثقافة والمثقفين»، وبالأخص عندما لا يضطر المثقف إلى تأدية أي فاتورة سياسية على دخوله وخروجه من هذه المؤسسات النظامية. ثالثا، وهو العامل الذي يهمنا أكثر في هذا الملف، يرتبط بحصول التوافق السياسي ما بين المعارضة والنظام وما لهذا التوافق من أثر في إعادة تحريك مواقع المثقفين والآثار الأخرى على الإنتاجات الثقافية وعلى الخطاب الثقافي. يعطي هذا التوافق اليسارَ فرصة سانحة ل«التعويض السياسي» للمثقفين، من خلال فتح آفاق مؤسساتية لهم ووضعهم في مناصب تسييرية ومناصب لاتخاذ القرارات السياسية. وما حصل في المغرب، إبان حكومة التناوب التوافقي «التاريخي»، وقع في دول أخرى، إذ تحول فيها المثقف من كاتبِ عمود أو ديوان أو قصة أو من أستاذ محاضر بسيط، إلى مستشار في ديوان وزاري أو مدير مركزي أو مدير مسرح أو مركّب ثقافي.. كما تمكن العديد من المثقفين، بفضل وصول اليسار إلى السلطة، من طباعة دواوينهم الشعرية، بامتيازات تفضيلية، ومن الحصول على الدعم المالي للإنتاج المسرحي والفني، عموما، ومن الحصول على الدعم، لتنظيم المعارض والمنتديات والمهرجانات. ويمكن القول إن المد السياسي العالمي المرتبط بوصول اليسار إلى السلطة قد واكبه مدٌّ كبير من المشاركة النظامية للثقافة. وأظن أن تقييم هذه التجربة الثقافية الجديدة التي عاشتها الساحة الثقافية في المغرب منذ 8991 إلى اليوم، أي بوصول اليسار ومعه المثقف المغربي إلى ممارسة السلطة التنفيذية، تبقى أحسنَ وأمتن من ذكر لائحة أسماء المثقفين الذين استفادوا نظاميا من وصول «زملائهم» الاشتراكيين إلى السلطة، وبالتالي ما هي أهم الخلاصات -ولو المؤقتة لأن التجربة ممتدة ومستمرة- التي من الممكن استخلاصها بخصوص «ظاهرة الاندماج النظامي للمثقف المغربي منذ 8991»؟ النظام وعلاقته بالمثقف ربما انتهت مرحلة النفور من المثقف التي كان يعاني منها النظام منذ انقلابات 0791، والحكمة الأساسية التي ربما منحتها حكومة التناوب للنظام هي تكوين أول قاعدة بيانات مندمجة -وقابلة للتوسع- لأسماء مثقفين كانوا يعملون في الخفاء وبتستُّر واستدراك النظام كلَّ إمكانيات إدماجهم النظامي في الحملة الدعوية التي يشنها -موسميا- لتكريس وجوده وآلياته. اليوم، تحول المثقف الثائر والمتطرف، الذي كان ينشُط في تنظيمات سرية متطرفة، إلى عامل للاستقرار والمصالحة، وهي ظاهرة ليست طبيعية ارتقائية -بالشكل الذي يريده البعض- وإنما مقايضة ثقافية وسياسية يرى فيها البعض نوعا من «الحكمة» لاستثمار العلاقة مع النظام، لتحقيق التنمية (ما دام التوافق حاصلا حول أهدافها) في حين يرى فيها البعض فرصة لتقوية المركز الشخصي الفردي، الكفيل بتقوية المشروع الثقافي والمجتمعي لاحقا (براغماتية وصولية مفيدة). لعب المتناوبون الأوائل (الاشتراكيون) فقط دورَ وسيط، من أجل تغيير مواقف المثقفين الراديكاليين من السلطة. المثقف وعلاقته بالسلطة تغيرت المواقف وتغيرت معها الأولويات وأنماط التفكير والتخطيط وأصبح المثقف (أو على الأقل الحاصل على المعارف التقنية) خبيرا في توسيع رقعة الشراكات الذكية، حيث تحولت الممارسات الثقافية إلى مشاريعَ تتطلب تدبيرا مقاولاتيا يبدأ بتشكيل الفكرة الثقافية المدرة للدخل وتعيين فريق العمل الأقل تكلفة (غالبية أعضائه من الطلبة الباحثين) والبحث عن مصادر التمويل وطنيا وأجنبيا (وهو ما يتطلب تطوير اللغات وتطوير الكفايات المحاسباتية والمهارات التدبيرية) والعمل على إتقان ماركوتينغ ثقافي، من أجل استقطاب الاهتمامات المؤسساتية بالمشاريع قيد الإعداد، فالمثقف -المقاول هي الصفة التي بدأت تغلب على تمظهرات الثقافة، سياسيا ونظاميا. المثقف وعلاقته بالثقافة ليس تعسفا، إذا قلنا إن الثقافة تتحول من هدف إلى وسيلة عندما يحصل تحاك وتماسّ ما بين المثقف والسلطة، حيث يصبح الموقع الثقافي أهم من المتن الثقافي نفسه. وإذا لعب المثقف دور الموقع، فإن النظام سيهزمه -وهو ما يقع حاليا- لأن أكثر «الفروسيات» التي تتقنها الأنظمة الحاكمة هي التدبير الجيد للمواقع وإعادة توزيعها على محك المقايضات الثقافية والفكرية والسياسية.