لو لم يكتب سهيل إدريس إلا رواية «الحي اللاتيني»، لكان واحدا من كبار المجدِّدين في حقل الكتابة الروائية العربية. والحال إنه ما اكتفى بها نصّا شديدَ التميُّز في عصره (بداية الخمسينيات من القرن العشرين الماضي)، وإنما أردف بغيرها في العقد نفسه وما تلاه. فأتت روايتاه «الخندق الغميق» (1958) و»التي تحترق» (1962) تكرِّسانه روائيا بين أترابه، وعلما من أعلام الجيل الروائي العربي الثالث. ولو لم يكن سهيل إدريس قد فعل في حياته شيئا آخر سوى أنه أسس مجلة «الآداب» (في العام نفسه الذي أصدر فيه رواية/سيرة «الحي اللاتيني: أي في 1953)، وكرسها منبرا تعاقبت على الكلام منه تيارات الأدب والإبداع كافة، لكان قد فعل كل شيء يملك المرء أن يفعله ويُذكَََر اسمُه به. لكن سهَيْلا ما اكتفى ب«الآداب» مجلة ومنبرا وساحة معركة ثقافية من أجل الالتزام والتجديد فحسب، وإنما أنشأ دار نشر باسمها («دار الآداب») وحولها معملا لإنتاج النفيس من النصوص الثقافية العربية خلال نصف قرن مضى. ثم إن سهيل إدريس كان يمكنه أن يُحسب في جملة أهم مَنْ أسدوا للثقافة العربية خدمة بما قدّموه من ترجمات وعرّفوا عشرات آلاف القرّاء العرب به من نصوص وتيارات. لكن الرجل ما اكتفى بترجمة الأدب الوجودي الفرنسي وعيون النصوص التي كتبها رموزه (جان بول سارتر، ألبير كامو، سيمون دوبوفوار) فحسب، وإنما نقل اللسان الفرنسي «برمته» إلى القارئ العربي من خلال عمله المعجمي الموسوعي (المشترك مع جبّور عبد النور) الشهير والأوسع تداولا: «المنهل». ثم بادل الفرنسيين جميل لغتهم بأن نقل إليها لغة العرب فمَكّن مستعربيهم –وبني جلدتنا من الفرونكوفونيين- من وسيلة اتصال بلغة الضاد. وفي الحالين، وضع تحت تصرف ملايين القراء العرب –من غير العارفين بالفرنسية- ومئات (أو آلاف) التراجمة موردا لغويا عزيزا تعَهَّدَه بالتحسين والتصويب في كل مرة طُبع فيها من جديد. باكرا فعل سهيل إدريس أكثر هذا الذي ذُكر: ابن الثامنة والعشرين نشر رواية «الحي اللاتيني» ليجدّد من خلالها سؤال العلاقة بين الشرق والغرب من خلال موضوعة الجسد: السؤال عينُه الذي عني به توفيق الحكيم وطه حسين ثم الطيب صالح. وابنَ الثامنة والعشرين أسس مجلة «الآداب»، وكان عليه أن يقاتل من أجل أن تصمد في موقعها أمام المواقع الحصينة لغيرها: «الأديب»، «شعر».. الخ. وابن الواحد والثلاثين بنى ل«الآداب» دارا، ووجد لتوقيعها مئات النصوص التي يمكن أن تتخطَّفَها أيُّ دار نشر ذات مكانة وصيت. وكان عليه، أيضا، أن يرابط عند حدود المنافسة حتى لا تخسر داره رهان البقاء في دار البقاء أمام دور نشر طبقت شهرتها الآفاق وتقاطرت عليها عيون النصوص من كل الآفاق. لم يزاول الكتابة الروائية بانتظام، ربما لأن هاجس الترجمة والتأليف المعجمي أخذه عنها بعيدا (وإن لم يطفئ في نفسه شهوة –بل جذوة- الكتابة عن الذات والأقربين بجرأة ندرت لها النظائر). غير أنه ما سها أبدا عن دور أراده ل«الآداب»: مجلة ودارا، وسعى في أمر إنفاذِه سعْي مِلْحاح صاحب رسالة. وما خاب المسعى، فالمجلة التي دافعت عن وجودها في محيط حياة ثقافية طَبَعَتْها المنافسة الشديدة بين الأسماء والمنابر، سرعان ما خيّبت توقعات من خالوا أنها آيلة إلى صمت مبكر. وبينما كانت مجايلاتها من المجلات تُقفل وتعتذر لقرائها عن عدم القدرة على الاستمرار، كانت «الآداب» تجذف ضد التيار و-أحيانا- تقود سفينة الحوار الثقافي في محيط الأفكار والرؤى المضطرب. وها هي لها اليوم من العمر خمسة وخمسين عاما، ومن الرصيد عطاء ثلاثة أجيال من الكتاب والمثقفين. ولك أن تقول الشيء نفسه عن «دار الآداب» التي صمدت حين وَهَن من غيرها العظم وتراخت العضلات، فما سلّمت بضغوط الجزر الثقافي وثقل الضائقة والخسارات، ولا بحثَتْ لها عن السهل كي تصطاد جمهورا جديدا من القراء مثلما فعلت شقيقات لها أغراها نداء الربح وأخذها عن هواجس البدايات. من يبتغي اليوم -أو غدا- كتابة تاريخ الثقافة العربية المعاصر، وتيارات الإبداع والنقد فيها خاصة، فلا بدّ مَدْعوّ إلى مطالعة تراث مجلة «الآداب» منذ نصف الخمسينيات الأول من القرن الماضي. ففي آلاف (بل عشرات آلاف) صفحاتها معرض غني لنفائس الأدب وعيون المقالات النقدية والفكرية التي تقدمُ مادتها خريطة لتيارات الفكر والإبداع في النصف الثاني من ذلك القرن. ومع أن صاحب الآداب ما استساغ يوما قصيدة النثر، وما توانى في فتح معارك ثقافية مع مجلة «شعر» وشعرائها (يوسف، الخال، أدونيس، أنسي الحاج..) واستضافة رموز القصيدة العربية الحديثة على صفحات مجلته (نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، نزار قباني..)، إلا أنه أبى أن يتحزّب ثقافيا فيفرض لونا وخيارا ثقافيين على مجلته. وكان من نتائج هذا السلوك الحكيم أن كرّس «الآداب» منبرا حرّا ومساحة فسيحة للديمقراطية الثقافية. وتلك من دون جدال واحدة من قرائن عدة على نجاحها في الاستمرار وفي الشعبية الكاسحة لدى الكتاب والمثقفين وجمهور القراء، وعلى أهليتها لأن تكون مادة مرجعية لأي باحث يتقصّى تاريخ الإبداع والثقافة في البلاد العربية المعاصرة. وما أغنانا عن القول إن السلوك عينه هو ما حَكَم سياسة النشر عنده في «دار الآداب». أكثر من نعرف اليوم من كبار الشعراء والمبدعين والكتاب العرب بدأ تجربة الكتابة في «الآداب». ومن خلالها عُرف وذاع صيتُه في أركان الجغرافيا العربية. حتى إن قاعدة باتت -أو تكاد- في عداد المسلَّمات الثقافية: أن تكون كاتبا في أعين القراء فتحظى برأسمال الصفة هذه، (هو) أن تحصل على شهادة اعتراف من منبر ذي صدقية مثل «الآداب» ليست شيئا آخر غير أن تكون واحدا في جملة من كتبوا فيها. أما أن يتكرر اسمك في صفحاتها، فتلك بيّنة على أنك من طبقة الصفوة في طبقات الكتاب. وهي -في زمن ما- شهادة تعلو على أية درجة اعتراف جامعية. ذهب سهيل إلى التاريخ وترك فينا «آدابه» مجلة ودارا وتراثا (وسََََدَنَة من الأبناء يحرسونها). أما «المنهل»، فمازال -حتى إشعار آخر- من أكثر النصوص شعبية في الحياة الثقافية للنخبة العربية: تستزودُ منه كل يوم ما يصلها بالثقافة الإنسانية الحديثة.. وتُحَكِّمُهُ في كل «نازلة» خِلاف بين لفظين ومعنَيَيْن في لسانيْن مختلفيْن.