سواء كانت تسريبات «ويكيليكس» فضيحة أو مؤامرة، كما تساءل استطلاع الرأي الذي تقوم به حاليا قناة «الجزيرة»، فإن لتلك التسريبات حسنات عدّة إذا نظرنا إليها طبعا بمنظار الشعوب ومصالحها العليا، الآنية والمستقبلية، وليس بمنظار الحكومات أو الزعماء والقادة الذين أثارت التسريبات الانتباه إليهم وإلى خروقاتهم ودسائسهم وإلى ما كان يَرُوج حولهم في السّر والعلن وما لم تترك الصحافة المستقلة للمفاجآت فيه نصيبا حول تواطؤاتهم وممارساتهم المشبوهة، فالتسريبات وإن كانت في معظمها عبارة عن تقييمات وتقديرات وآراء غير مرفوقة في الغالب بما يبرهن على صحتها أو دقتها، فهي على كل حال شهادات دبلوماسية موثقة لسفراء ومسؤولين رسميين، وهي في المحصلة إما شهادات إثبات لما نفته الحكومات أو شهادات نفي لما أثبتته. والأهم من ذلك، فتلك التسريبات شهادة يشهد بها شاهد كاد يكون من أهلها، أي من أهل تلك الحكومات نفسها ذات الارتباط الوثيق بأمريكا، التي طالما سوّقت لاتفاقياتها مع أمريكا وإسرائيل أو حتى لحظوة مسؤوليها بشهادة حسن سيرة وسلوك أو باستقبال في «عشّ الصقور» على أنها فتوحات عظيمة وبشائر خيرات عميمة. أولى حسنات ظاهرة «تسريبات «ويكيليكس»» هي أنها أيّدت (حتى لا نقول: أكّدت) معظمَ ما حام من شكوك حول الأنظمة الفاسدة، وعلى رأسها النظام الأمريكي ذاته، فالتسريبات التي قيل عنها منذ الآن إنها تؤرخ لنهاية الدبلوماسية السرية وبداية عهد جديد قوامه «اللعب عالمكشوف»، قد تكون فضيحة لم تحسب الولاياتالمتحدة حسابها، مع أنها أثبتت أنها تستطيع أن تكمم فم من تريد متى شاءت ولو بقصف طواقم الصحافيين ومكاتب الفضائيات أو بمنع التغطية الإعلامية لغزواتها التي لا تنتهي، وقد تكون مؤامرة أو، بتعبير أدق، مؤامرة المؤامرات (أي مؤامرة أساسها كشف المؤامرات)، وهي من ثم مؤامرة ضد الأنظمة وتصب بالتالي، وإن عن غير قصد، في صالح الشعوب «المستغفلة». قد تكون التسريبات إذن فضيحة أو مؤامرة، إلا أن ما يمكن تأكيده هو أن تسريبات «ويكيليكس» جعلت الشبهات والشكوك التي حامت حول أمريكا وحلفائها المغفلين أقرب إلى الحقيقة منها إلى الشائعات، وبالأخص منها فضائح متضخمي الأنا من ذوي «الحظوة المزعومة» لدى الراعي الأمريكي الذي ما فتئ يثبت لحلفائه العرب وللعالم أجمع أن سياساته (التي بالمناسبة لا نريدها سياسات مسجد أو كنيسة، كما قال كاتب قبطي) هي، بهمجيتها ودسائسها، من نهجِ راعي بقرٍ أصيل، متغيِّر الرأيِ والمزاج، أو من نهج لاعب «رُوديُو» مغامرٍ ومقامرٍ، ولا يمكن أبدا لأزلام الأنظمة الحليفة إياها أن يدعوا من الآن فصاعدا أنّ سياسات أمريكا هي من نهجِ راعي سلامٍ مزعوم طالما خدموه ومكنوه من أسرارهم، مقابل لا شيء تقريبا سوى ضمانِ ورعاية بقاء معظمهم في الحكم ضدّا على رغبة شعوبهم. ثاني حسنات تسريبات «ويكيليكس»، على سبيل المثال لا الحصر، أنها أكّدت أن انخراط أنظمة عربية رئيسية في السر والعلن في خدمة مخططات تقسيم وتقزيم وقطع رؤوس دول عربية وإسلامية أخرى، ليس من قبيل «نظرية المؤامرة»، وإنما هو أقرب إلى الحقيقة منه إلى الخيال، مما سيجعل تلك الأنظمة تتراجع وتكف في المستقبل المنظور، على الأقل، عن طلب خدمات خسيسة كتلك، مقابل تنازلات وتسهيلات أكثر خسة ودناءة، ما فتئت تقدّمها إلى أمريكا ومرعيتها إسرائيل. يقول عبد الباري عطوان في هذا الصدد: «الحكومات العربية الحالية تتحمل المسؤولية الأكبر عن عمليات التفكيك والتفتيت التي تتعرض لها الدول العربية، لأنها سارت خلف المخططات الأمريكية وما زالت، فقد تآمرت على العراق وتواطأت مع الحصارات المفروضة عليه وعلى دول أخرى مثل السودان وسورية وحاليا إيران. انفصال كردستان العراق وجنوب السودان، وربما دارفور وجنوب اليمن بعد ذلك، سيكون مقدمة لتفتيت دول أخرى تعتقد حكوماتها أنها في منأى عن ذلك، ولو عدنا إلى الوراء قليلا، وبالتحديد إلى مرحلة ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، نجد الكثير من المقالات والدراسات نشرت في مجلات أمريكية مثل «يو.إس نيوز» تتحدث عن ضرورة تفكيك المملكة العربية السعودية إلى أربع دول، واحدة في الاحساء وثانية في الحجاز وثالثة في نجد ورابعة في عسير. ومن المفارقة أن هناك من يتحدث عن تقسيم لبنان، وهناك من يطالب بدولة للأقباط في مصر، وثالث يرى حقا للأمازيغ في دولة في الجزائر، ولا نعرف من أين ستأتي الدعوة المقبلة إلى الانفصال وتقرير المصير... أما ثالثة حسنات تسريبات «ويكيليكس»، وهي الأهم في نظري، فهي أنها ستشكل حافزا وذريعة للشعوب أو، على الأقل، القوى الحية منها كي تضغط على حكوما تها في اتجاه فك الارتباط بالسياسات الأمريكية والحد من الارتهان لمخططاتها، كما تشكل تلك التسريبات سببا كافيا وفرصة لا تعوَّض للحكومات المعنية، وعلى رأسها الحكومات العربية، لتأخذ مسافة من أمريكا والغرب عموما، بالكف عن الانخراط في مشاريعهم الدونكيشوتية الوهمية ذات الأهداف والنوايا المشبوهة، من حرب النجوم إلى الدرع الواقي مرورا بالحرب على الإرهاب وليس انتهاء بمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي اتضح أنهم يريدون تكبيره بمضاعفة عدد الدويلات القزمية به، وليس بخلق تكتلات سياسية أو اقتصادية كما يقتضي المنطق والظرفية. فالولاياتالمتحدة كإمبراطورية أخطبوطية مترامية الأذرع، وكما سبق أن أسلفت في مقال ب»القدس العربي» بعنوان «وقود الإمبراطورية»، قد دخلت منذ بداية القرن الماضي في سباق محموم ومتواصل للحيلولة دون نضوب وقود إمبراطوريتها الاستراتيجي العسكري والإيديولوجي، أو ربّما لتخصيب وقود الإمبراطورية أحيانا. لهذه الأسباب وغيرها، وجب على الشعوب العربية الضغط الإيجابي المنظم والمعقلن في اتجاه جعل الحكومات تأخذ مسافة معقولة من أمريكا والغرب، ولو بشكل تدريجي لا يضر بالمصالح، كأن تطلب سحب القواعد وترفض إقامة أخرى وترفض الوساطة الأمريكية المتحيزة في مختلف القضايا العربية الإقليمية والدولية، وعلى رأسها وساطتها في الصراع الإنساني الفلسطيني ضد الصهيونية، وليكن «مفعول الويكيليكس» الارتدادي ما شاء، فضيحة أو مؤامرة، أو أيّا ما أريد له أن يكون.