لم يفطن المؤرخ الراحل عبد الوهاب بنمنصور إلى أن ما اعتبره الجنرال محمد أوفقير مجرد مزاح سيتحول إلى حقيقة، ففي أصل الحكاية أنه استمزج رأيه في تحويل الطائرة الملكية القادمة من نواديبو في اتجاه الرباط إلى عاصمة أوربية. وحين لم يجد تجاوبا من المؤرخ بنمنصور، الذي كان يرافق الملك الراحل الحسن الثاني، زعم أنه يرغب لو فعل ذلك، من أجل تمكين الملك من عطلة إجبارية تحت سماء جنيف أو أي عاصمة أخرى، ليستريح من عناء أتعاب الآخرين. أرخ بنمنصور لهذه الحكاية على طريقته، وحين استقدم يوما رجلا من تافيلالت كان يعمل مديرا لمطبعة الرسالة في شارع علال بن عبد الله، في الرباط تمنى عليه أن يسخر كل جهوده في البحث عن وثائق تعزز الأرشيف التاريخي للمملكة، لولا أن وزير الخارجية وقتذاك، محمد بوستة، سيختاره دبلوماسيا إلى العراق. لم يبق من أحلام بنمصور سوى بناية فاخرة أقيمت على أنقاض المقر السابق لجريدة «الأنباء» الرسمية، التي أراد الوزير محمد العربي المساري، يوما، تحويلها إلى مؤسسة هامة، ولم تسعفه التجربة القصيرة في القيام بذلك، فليست كل الأحلام تنجز على قدر الطموحات. الآن، صار للمملكة مؤرخ ثالث، بعد بن منصور جاء حسن أوريد، ثم انتهت المهمة الأكثر دقة إلى رجل تمرس في دهاليز البروتوكول، وكان لا يشاهًَد في شارع محمد الخامس في الرباط إلا وهو يتأبط صحيفة أو كتابا ويسارع الخطى. مثله أيضا كان يفعل الحاج محمد باحنيني، وزير الثقافة في زمن آخر، والوزير عباس القيسي، الذي اقترن اسمه بالأمانة العامة للحكومة. لكن الرجال الثلاثة سيلتقون عند تقاطع التأريخ والثقافة والأمانة. أبدأ بالبروتوكول، فقد وجدت في حكاية عن إصرار الملك الحسن الثاني على اختيار العامل الطاهر أوعسو للإشراف على إعداد أجواء الضيافة لدى استقبال ملكة بريطانيا، إليزابيت الثانية في مراكش، بعضا من الأجوبة حول مهام الرجال. كان ادريس البصري قد سأل عن العامل أوعسو، فلم يجد جوابا سوى أنه توارى إلى الخلف. رد الملك بأن ذلك العامل يعرف شغله جيدا وإن لم يكن يزيد في بعض الحالات على طقوس نصب الخيام... لعل الحسن الثاني كان يستحضر الصورة الساحرة التي رسمها تشرشل عن مراكش، حين عاين يوما تمازج الثلج والشمس من شرفة «المامونية»، لذلك فقد أراد لذلك الحفل أن يعيد تذكير الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغرب عنها بلوحة رجل السياسة الكبير. ولو أن العامل أوعسو أخطأ في الاختيار حين جعل القناصة يوجهون صقورهم إلى أسراب الحمام. فقد اختلط الأمر على الملكة إليزابيت، حين رأت أن صحنها يضم حماما طُبِخ على الطريقة التقليدية المغربية ولم تفهم كيف أن أسراب الحمام زينت صحون المائدة الشهية. في بعض المفارقات أن الرئيس الأمريكي إزنهاور حط يوما بمطار الرباط -سلا، في زيارة رسمية، اتخذت كل الإجراءات البرتوكولية إلا احتساب هطول الأمطار. ولكن المفاجأة أن الرئيس حين قُدِّم له التمر والحليب، اكتشف أن التمر كان بعظمه، ولم يدر ماذا يفعل بتلك النواة... إلى أن اهتدى أخيرا إلى وضعها في جيب سترته، ومنذ ذلك الوقت، أصبح التمر يُقدَّم للضيوف من دون عظم... لدى تعيين الكاتب المفكر عبد الحق المريني مؤرخا جديدا للمملكة، صدر بيان أقرب إلى الثناء على نزاهة وكفاءة وإخلاص الرجل، والذين يعرفون في ديباجة أسباب النزول، أدركوا أن المريني بدأ فترة جديدة في عمله الذي أعاده إلى مربع الكتابة والكتب. وإنها لإشارة دالة أن يكون الكاتب الذي حاز على جائزة المغرب في أول طبعة لها عن كتابه في موضوع الجيش المغربي عبر التاريخ منذ حوالي ربع قرن، أن يجد نفسه وقد استوى على كرسي آخر يطال التأريخ مجددا للبلاد. وكما عرف بنزعته الإنسانية، لا يميل إلى الأضواء، فقد يكون بصدد استحضار جلسات كؤوس الشاي المنعنع، منذ أن كتب عن «الشاي في الأدب المغربي»، فهذا التقليد جزء لصق بالبرتوكول المغربي، ولو أن المغاربة نزعوا عن الشاي تقليده الارستقراطي، وأضفوا عليه سمة شعبية اختلط فيها الغزل عندما أصبحت النساء تشربنه، فانتقل اسمه من الشاي إلى «أتاي»، تأنيثا ورقة... يروق للمريني، دائما، أن يعيش التاريخ، وأقربه الإقامة بين ظلال المدن العتيقة، فقد كتب أطروحته في مراكش وناقشها في فاس، وكان حين يخلو إلى نفسه، بعيدا عن أجواء العمل، يلوذ إلى الكتاب، رفيقه الدائم، وإذا كان أغلى على رجال الفكر أن يحتفظوا بالمخطوطات المذيلة بعبق التاريخ، فإن المريني حرص على أن يهدي مخطوط «الحايك» حول الموسقى الأندلسية إلى إحدى المكتبات المهتمة بجمع التراث الأندلسي. لم يغادر منصبه البرتوكولي إلا لكي يلتحق بمنصب يعيده إلى ذاته وإلى أعماق التاريخ، وفي ذلك تكريم لأحد رواد اتحاد كتاب المغرب، الذي لم ينخرط في صراعات حزبية أو إيديولوجية، بقدر ما كان يلوذ دائما إلى بوصلة الدراسة والبحث، ولعله سيجد نفسه بين خزائن النفائس، لتنوير الأجيال القادمة حول حقيقة ما كان يحدث، من دون زيغ أو ادعاء...