لقد أصبح التعليم حلم الإنسان اليوم، سواء في البادية أو في الحاضرة، لأنه الطريق إلى العمل المريح حسب رأيه. فالرأي عنده أنه لو لم تكن المدرسة لصار مثل الجاهل لا يدري ولا يعلم شيئا. ويتضح هذا الأمر منذ فجر الاستقلال إلى يومنا هذا، فقد تدفقت جموع الشباب والأطفال على المدارس الحرة والدينية، خاصة في المدن والمراكز القروية التي كانت بها بعض المدارس، وصارت الأسر تفكر في السكن بالمدينة من أجل تسهيل متابعة أبنائها للدراسة. وكثيرا ما كانت الأمهات، ومازلن، يقمن مع مجموعة من الأبناء في المدن المجاورة طيلة الموسم الدراسي لأنهن يعرفن أن تكوين الأطفال وتعليمهم، وبالتالي تشغيلهم، لم يعد في مقدور الآباء الذين يهتمون بالقطاع الفلاحي والزراعي وحتى الخدماتي، بل من النادر جدا أن يعرف الآباء شيئا عن محتويات البرامج التعليمية وأهدافها، اللهم ما من شأنه تمكين أبنائهم من تغيير وضعيتهم، وذلك بحصولهم على عمل قار وبأجر يقي الحاجة، ومكانة اجتماعية أفضل تجعلهم يساعدون أفراد الأسرة على الدخول إلى عالم الكفاف والقدرة على العيش المحترم، ليستفيدوا مما هو جديد على المستويين المادي والمعنوي. إن كل هذا قد أدى، ومازال، إلى خلق فكر مخالف يفضي إلى تبلور تطلعات مغايرة وسلوكات متناقضة واحتضان قيم جديدة، وهو ما يخلق صراعات تتنامى حسب درجة الاستفادة، وكلما رجحت كفة أحد أطراف الصراع خف التوتر لاستسلام المغلوب، صراع بين الأجيال البشرية، صراع بين الجنسين، وصراع القيم والثقافات، وصراع بين المستفيد والمهمش، ضمن سياسة محكمة. إن الإقبال الشديد على التمدرس من طرف جميع الفئات اليوم أدى إلى خلق نخبوية تعليمية من خلال فتح مدارس خاصة واستثمارات تعليمية ابتعدت إلى حد ما عن أهداف التربية والتعليم وارتأت أن تضع نفسها بين مخالب الاستثمار والمال والتجارة عوض المساهمة في تطوير التعليم وإصلاحه. إن التعليم المغربي، وخاصة بالمجال القروي، لا يستطيع أن يبعد أصحابه عن مجالهم المعيشي واليومي والقيمي، فالأطفال والطلبة في البادية يمولون من طرف آبائهم. ومازال الأبناء المتمدرسون يبحثون عن دعم الآباء لمتابعة دراستهم. وبالتالي، فالآباء هم الموجهون الحقيقيون لأبنائهم، سواء في الدراسة أو في أمور الحياة الأخرى المتعلقة بالشغل والزواج... أما بالمدينة، فقد أقصيت الأسرة ولم تعد تتدخل إلا لماما في اختيارات الأبناء الدراسية والحياتية والثقافية أيضا. ورغم المساعدة التي تقدمها الأسرة إلى الأبناء لمتابعة الدراسة وبذلها الجهد الكبير لتحقيق كل الأجواء المناسبة لنجاحهم دراسيا واجتماعيا، فإن أبناء اليوم يبحثون عن الحرية في الاختيار والتعاطي مع الحياة بالشكل المقنع لهم. إن فقدان الصلة بين التعليم والتكوين أدى بدوره إلى العجز عن تحقيق الشغل لكل الأفواج المتخرجة من الشباب المتعلم، مما يفقد الأسرة السيطرة على أبنائها المتعلمين الذين تختلف توجهاتهم وتطلعاتهم. فالآباء يريدون الاستفادة من مراكز أبنائهم، أو على الأقل مشاركتهم فيها، والأبناء يرون في تلك المشاركة عبئا عليهم، مما يخلق توترات وصراعات تنتهي إلى تفكك البنية الأسرية، وبالتالي التدمير الممنهج لما هو مشترك، سواء على مستوى العلاقات أو البنيات الاجتماعية والاقتصادية داخل الأسرة. فالمدرسة في البلدان الضعيفة والنامية تمثل مظهرا حداثيا في المجتمع، إضافة إلى العديد من المرافق والمؤسسات الاجتماعية الأخرى التي تساهم في عصرنة المجتمع، فهي تعمل على تعليم الناشئة كل القيم الحديثة التي تختلف كليا عن القيم القديمة التي عفا عنها الزمن، فالسلوك العصري الحديث يأتي به المدرس من المدينة ويتشبع به أثناء مسيرته التعليمية والتكوينية قبل الدخول في غمار العمل داخل القسم. ولهذا كله، يمكننا أن نعتبر المدرسة وسيلة للتثقيف والتربية والتهذيب، على المستوى القيمي والمعرفي والسلوكي... الأمر الذي يساهم في إعادة بناء المجتمع التقليدي والمتراجع عن السلوك الحضاري المتنور. إن التعليم في البادية يعود بفوائد كثيرة على المجتمع القروي، إذ يعمل إنقاذ أبنائه من الأمية والجهل بالقيم والثقافات ويدفع بهم في اتجاه التنوير والتوعية. وبالتالي، فإن التعليم يساهم في تحسين الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأي مجتمع كيفما كان وأينما وجد، أي أنه إذا لم يؤدِ إلى تحقيق الشغل والإفادة المادية، فإنه على الأقل يرفع من المستوى الثقافي والتربوي للشخص وينقذه من ضلال الجهل والأمية. هناك إجماع على أهمية التعليم في البادية المغربية، ولكن هناك وعي بأن المدرسة بالبادية أقل حظا من مثيلاتها بالمدينة لأن الأخيرة تحتوي على العديد من الإمكانيات والأطر ويكون الاهتمام بها أكثر والمراقبة فيها متطور