إن أكثر الأخبار طرافة، ونحن نتتبع تفاعلات قضية «ويكليكس»، هي القصاصة التي تتحدث عن كون الوثائق الأخيرة التي تم نشرها يشرف عليها فريق سويدي يقبع في مخبأ تحت الصخور، فسواء كان الأمر حقيقة أو هو جزءا من الأسطورة ذاتها، فإننا لم نعد أمام الحديث عن أحداث تُصنَع وقرارات تُعَدّ على صعيد واشنطن أو موسكو أو برلين أو لندن وغيرها من العواصم العالمية الكبرى. لقد تحولت هذه الظاهرة إلى سلطة قاهرة للسلطات التقليدية، فإذا كانت الدول المسماة حديثة تفصل بين السلط الثلاث وتجعل السلطة الرابعة خادما ومسوغا لتوجهات هذه السلط، فإن ظاهرة «ويكليكس» تفرض نفوذها على المؤسسات الرسمية المسيطرة على الأنباء والمعلومات، وشكلت واحدة من أهم العوالم الافتراضية (Virtual Spaces)، التي يستطيع المواطن العالمي والكوني من خلالها إظهار تمرده وعصيانه السياسي في ظل بيئة تفاعلية تحتوي على أكثر من مستخدم متفاعل معه، دون قيود مفروضة من الواقع التقليدي. تثبت الضجة التي واكبت تسريبات «ويكليكس» أننا، بالفعل، في مرحلة جديدة، أصبح فيها السر حقا مشتَركا لا ينبغي ستره، وأصبحت فيه المعلومة مصدرا لسلطة جبارة هزَمت كل أنواع السلط.. نحن في مرحلة جديدة، أصبح فيها الإعلام الإلكتروني، خاصة، جسرا يصير فيه العالم المشتت في السياسة موحدا على صعيد المعلومة، وما الضغط الذي تمارسه بعض الحكومات على صاحب الموقع والشركات الداعمة له، إلا محاولة يائسة، كمن يضع حجرا صغيرا، لعرقلة السيل الجارف... كشف الأوهام ليست لوثائق «ويكليكس» الأهمية ذاتها من حيث المضامين، ولكنها كشفت أوهامنا عن وجود عالم ديمقراطي وعالم غير ديمقراطي، فقبل شهر، مارست أمريكا ضغطا قويا على الصين، لرفع رقابتها على محرك البحث «غوغل»، مدعية أنها تدافع عن حقوق الإنسان، وها هي اليوم تمارس التضييق نفسَه على «ويكليكس»!... وبحكم قوة تأثيره هذه، أصبحت ظاهرة «ويكليكس» سلطة فعلية في الواقع، تسهم في صناعة القرار، إلى جانب السلط القانونية للدول، فهذا الموقع لم يفرض نفسه على الناس بقوة القانون أو بالزجر، وإنما بقوة اختراق القلوب والعقول والتأثير فيها، حيث يحظى بالقبول والتفاعل والمتابعة من طرف الجميع، برغبة ذاتية وطواعية، حتى وهو يقوم بعمل غير شرعي، لأنه من الناحية القانونية والأخلاقية، وضع يده على خصوصيات وممتلكات الغير. لكن ثورة الاتصال المعاصرة مكنت ظاهرة «ويكليكس» من الوصول إلى ملايين الناس في وقت واحد وحيثما وُجدوا، فالوثيقة التي تناولت مساومة أمير قطر البلدان العربية بقناة «الجزيرة»، مثلا، كان مضمونها مكشوفا لنا نحن المغاربة في السنتين الماضيتين، من خلال الطريقة غير البريئة وغير المهنية التي تتناول بها القناة قضايا المغرب.. ولكن الوثيقة والطريقة التي نُشِرت بها أعطتها قدرة كبيرة على تشكيل الوعي المغربي بحقيقة ليس حول هذه القناة فحسب، بل بحقيقة أن «أشقاءنا العرب» ليسوا حلا بل هم مشكلتنا الوطنية الأولى... ويمكننا أن نقول، دون تحفظ، إن ظاهرة «ويكليكس» اليوم لديها القدرة على تحضير وتوجيه وإنجاح ومواكبة العديد من التغييرات السياسية والاجتماعية في دول العالم، فما قبلها ليس هو ما بعدها، لأنه سيشعل ثورات وفتنا وحروبا طائفية وعرقية وسيساهم في التوترات السياسية، بتحريض جهات ضد أخرى. إن الذين أسسوا موقع «ويكليكس» والمنتمين إلى مختلف الجنسيات، والذين يديرون اليوم حربا ضروسا لحماية الموقع، اكتشفوا جميعا النقص الموجود في معادلة الأنظمة السياسية الحاكمة، والناتج عن تغافل أهمية المعرفة وسلطتها، فاختاروا المعرفة والمعلومة في مواجهة المال والقوة، فاكتسبوا قوة ومصداقية، ما يعرف في أدبيات العلوم الاجتماعية بظاهرة إعلام «المواطن»، المواطن العالمي، كما جاء في الموقع. تطرح ظاهرة «ويكليكس» بديلا للإعلام الرسمي التقليدي، وليستخدم لغة جديدة لا تتعامل مع الحقائق بمقادير، كما هو الحال في الإعلام الرسمي، فمن سيستمع بعد الآن إلى ناطق رسمي في الولاياتالمتحدةالأمريكية؟!... سلطة خامسة « مستقلة» إن أكثر الأخبار طرافة، ونحن نتتبع تفاعلات قضية «ويكليكس»، وهي القصاصة التي تتحدث عن كون الوثائق الأخيرة التي تم نشرها يشرف عليها فريق سويدي يقبع في مخبأ تحت الصخور، فسواء كان الأمر حقيقة أو هو جزءا من الأسطورة ذاتها، فإننا لم نعد أمام الحديث عن أحداث تُصنَع وقرارات تُعَدّ على صعيد واشنطن أو موسكو أو برلين أو لندن وغيرها العواصم العالمية الكبرى. لقد تحولت هذه الظاهرة إلى سلطة قاهرة للسلطات التقليدية، فإذا كانت الدول المسماة حديثة تفصل بين السلط الثلاث وتجعل السلطة الرابعة خادما ومسوغا لتوجهات هذه السلط، فإن ظاهرة «ويكليكس» تفرض نفوذها على المؤسسات الرسمية المسيطرة على الأنباء والمعلومات، وشكلت واحدة من أهم العوالم الافتراضية (Virtual Spaces)، التي يستطيع المواطن العالمي والكوني من خلالها إظهار تمرده وعصيانه السياسي في ظل بيئة تفاعلية تحتوي على أكثر من مستخدم متفاعل معه، دون قيود مفروضة من الواقع التقليدي. ورغم تأكيد عبد الرحمن الكواكبي على وجود حرب دائمة وطراد مستمر بين الاستبداد والعلم، ورغم أن فرائص المستبد ترتعد من العلم والعلماء، فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل ينجح هؤلاء الحكام الجدد، الذين لا تتعدى كل أسلحتهم كونها عبارة عن لوحة مفاتيح كمبيوتر وسكانير وصفحات على شبكة المعلومات الدولية، في كسر سطوة المال والنفوذ التي تملك كافة أساليب الضبط والقهر الاجتماعي والسياسي. إن ما يتم تسريبه من موقع «ويكليكس» يثبت أن الإعلام الجديد المعتمد على تقنية المعلومات بإمكانه أن يهز أكبر دولة في العالم، وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية، بل إن الإدارة الأمريكية أعلنت حالة الطوارئ في صفوفها، استعدادا لما سينشره الموقع ولتأثيرات ذلك على العلاقات السياسية والدبلوماسية مع «حلفاء» و«أصدقاء» واشنطن... يعتمد «ويكليكس» على جهود وإمكانات لا تقارن بأي حال مع إمكانات الإدارة الأمريكية، لأنه مجموعة من الأشخاص الذين يعتمدون على مؤسس الموقع الأسترالي جوليان أسانج، الذي يؤمن بأن من حق الجميع أن يعلم ما تفعله الحكومات، لاسيما أقوى دولة في العالم، وكيف تدير الحروب والعلاقات الدبلوماسية، إيمانا منه بأن المعلومات حق للجميع وأن من بيده السلطة لم يعد يحتكر المعلومة. ثورة في الديمقراطية «ويكليكس» عنوان لثورة جديدة في الديمقراطية التي استطاعت، عبر استخدام تقنيات المعلومات الحديثة، أن تربك الأطر التقليدية لاستخدامات القوة والسلطة! فإذا كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية تقول إن نشر وثائق سرية بهذا الحجم يعد تهورا ويمكن أن يعرض للخطر أشخاصا مذكورين بالاسم في هذه الوثائق ويضر بالمصالح الأمنية للولايات المتحدة وشركائها، فإن الموقع استعان بصحف عالمية، مثل «غارديان» البريطانية و«نيويورك تايمز» الأمريكية و«دير شبيغل» الألمانية، لمساندته في نشر التسريبات، على أساس أنها تصب في الصالح العام، وهذا هو التحدي الأكبر، إذ إن السلطة الرابعة التقليدية (الصحافة) تحالفت الآن مع «السلطة الرابعة الجديدة» (الإعلام الجديد) وبالتالي، فإن المعادلة السياسية أخذت تنقلب على المستوى العالمي، لأن ما يقوم به الموقع الإلكتروني يؤثر على أكبر قوى سياسية، اقتصادية، عسكرية وثقافية في العالم. السناتور الديمقراطي جون كيري، الذي يترأس لجنة العلاقات الخارجية النافذة في مجلس الشيوخ، قال إن «الوثائق تثير تساؤلات جدية حول حقيقة السياسة الأمريكية». وأضاف أن هذه السياسة «تمر بمرحلة حرجة، وهذه الوثائق تزيد من ضرورة التعجيل بإجراء التعديلات الضرورية، لإكسابها شيئا من المصداقية والفعالية»... في حين قال موقع «ويكليكس» إنه حجب نحو 15 ألف وثيقة أخرى، لأن مصدرها يرى أنها «قد تضر بالأمن القومي الأمريكي»، رافضا الكشف عن هوية هذا المصدر. ولكنْ، يعتقد أنه المحلل العسكري الأمريكي برادلي مانينغ، الذي يواجِه حاليا تهمتين جنائيتين، بعدما حامت شكوك حول تسريبه شريط فيديو يصور غارة شنتها مروحيات «أباتشي» الأمريكية في وضح النهار في العراق وقُتل فيها 12 مدنيا... يقول الموقع إن أول دفعتين من الوثائق احتوت على تقارير عبارة عن حوادث كتبها جنود أمريكيون في الفترة من 2004 حتى 2009، وتحديدا خلال الحربين في أفغانستان والعراق، بما في ذلك مزاعم ممارسة القوات العراقية التعذيب، وتقارير ألمحت إلى مقتل 15 ألف مدني عراقي في العراق، إضافة إلى أن الشرطة والجيش الأفغانيين «يفتقران إلى الكفاءة والولاء لقوات التحالف». ومهما قيل أو جاء في هذه الوثائق، فإن ذلك لا يمنع من القول إن العالم اليوم مقبل على دخول مرحلة تختلف عن باقي المراحل السابقة، خاصة أن المعلومة لم تعد حكرا على أحد، مثلما هو حال الأخبار وتناقلها، والتي أصبح فيها أي شخص وأي مواطن ناقلا للحدث، لحظة بلحظة، في أي مكان وفي أي مجتمع من مجتمعات العالم. «ويكليكس» أو القرية الكونية.. إذا ثبت أن ثورة التكنولوجيا المعلوماتية قد غيرت أوجه السلطة التي كانت سائدة في العالم على مر الأزمنة، فإننا، اليوم، أمام سلطة جديدة هي «سلطة المعلومات». أما ثورة الاتصالات، التي تزامنت معها، فقد تطورت بدورها كثيرا وبشكل غير طبيعي، إذ تطورت البرقية «المورس» إلى الرسائل الإلكترونية «الإيميل»، التي اختزلت العالم كله في لحظات، فالبرقية كانت تحتاج إلى أسابيع لإيصالها، بينما «تنتقل» الرسائل الإلكترونية اليوم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب خلال ثوان.. إنها ثورة تكنولوجية حقيقية، غيرت كل مفاهيم الاتصالات والمعلومات من ناحية الكم والنوع والسرعة وأنتجت هذه السلطة الجديدة، لذلك تسارعت الأحداث وردود الأفعال في يومنا الحالي في كافة نواحي الحياة. لقد أشار الكاتب الاسباني لويس بستو، في مقاله المنشور في صحيفة «إسباكتادور» -كولومبيا في ال6 من الشهر الجاري، إلى التصور المتعلق بسهولة امتلاك المعلومات، وهو التصور الذي دفع الكثير من الناس والمؤسسات الحزبية والحكومية إلى السعي إلى الحصول على المعلومات، وثمة سبب ثانيا هو الرغبة والحاجة إلى التعرف على معلومات مهمة قد تحقق التفوق والأفضلية على الخصوم.. إنها سلطة من شانها أن تجعل أحد الطرفين يخضع للطرف الآخر، الذي يمتلك المعلومة المؤثرة ويجعله «أسير تلك المعلومات»!...