العولمة، قبل أن تتحول إلى مفهوم وإطار نظري يستوجب الفحص والتقصي الدقيقين، هي كلمة مشتقة من اسم «عالم» (Monde)، ويمكننا ردها إلى جملة «صار الشيء عالميا» (Mondial)، وعندما نقول عولمة (Mondialisation)، فإننا نقصد أنها عملية وفعالية، أي العملية التي يصير بها الشيء كونيا ولم يعد خصوصيا. ويحيل فعل الصيرورة على التحول والحركة، كما يحيل، أيضا، على قوة وإرادة ينسب إليها فعل العولمة، وهي بالضرورة قوة وإرادة لها المصلحة والمقدرة على فرض خصوصياتها على باقي الخصوصيات، بل وتذويب هذه في تلك، وهي، في سياقنا التاريخي، تحديدا، الحضارة الغربية، لتتحول العولمة إلى مفهوم ومصطلح تقابله مفاهيم، كالخصوصية والمحلية والقومية، وترادفه مفاهيم، كالقرية الكونية.. وما يميز العولمة، كمفهوم، هو أنه يلزم الناظر فيه بالتماس فهم شمولي لمختلف تجلياته، فلا مجال فيه للقول المتخصص، فمن السياسة والعلاقات الدولية، مرورا بالاقتصاد والمال، وصولا إلى الثقافة والقيم، يبقى التداخل السمةَ المميِّزةَ لهذا المفهوم، وتجلياته كثيرة ومتناسلة، كعولمة الاقتصاد، ومنها عولمة الأزمات الاقتصادية، عولمة السوق، ومنها عولمة الاستهلاك، عولمة الاتصال، ومنها عولمة القيم، عولمة الحق، ومنها عولمة مفهوم الجريمة والعقاب، عولمة الحروب، ومنها عولمة ازدواجية المعايير.. ومن مجالاتها، أيضا، عولمة الإرهاب، ومنها عولمة الخوف، فما يخيف أمريكا ينبغي أن يخيفنا نحن أيضا. لو صح لنا أن ندقق في كلمة «إرهاب»، لقلنا إنها حكم قيمة وليست مفهوما ذا جوهر ثابت ومحدد، إذ إن استعمالاتها قديمة واستعمالنا له، كمفهوم، ينبغي أن يكون بحذر شديد، حيث غالبا ما كان يطلقه كل طرف على كل الأعمال التي تتضرر منها مصالحه.. وعندما نقول إنه مفهوم قيمة، فمعناه أنه يصبح ذا دلالات نسبية متغيرة، بل وسوقية، أحيانا، تتغير معانيه حسب تغير المصالح، ففي الفترة الاستعمارية، مثلا، كانت الدول الاستعمارية تستعمل المفهوم لوصف الأعمال المضادة التي تقوم بها الشعوب المستعمَرة، فكانت هذه الأخيرة تسمي ذلك مقاومة، بينما الأولى تسميها إرهابا.. وعندما انتهت الفترة الاستعمارية وتغيرت المعطيات، أصبح الحكم يطلق على الشيوعيين، ولكنْ بنفس النسبية، حيث كان كارلوس، مثلا، يوسم بكونه «إرهابيا» عند فرنسا وأمريكا، ولكنه يعتبر «مناضلا ثوريا» عند كوبا وليبيا القذافي. ونستطيع أن نلمس، أيضا، نسبية المفهوم وتعدد دلالاته في البلدان التي تواجه حركات انفصالية، فحركة «إيتا» تعتبر عند الباسك حركة تحررية، وعند السلطات المركزية في مدريد، حركةً إرهابية... وإذا تتبعنا حركية هذا الحكم، حتى لا نقول مفهوم، في مرحلة ما قبل 2001، سنجد أن دولا كثيرة كانت «تنتعش» دبلوماسيا في مناطق الظل، التي تخلفها نسبية الحدود التي كانت تعطى لها، وغالبا لفرض أجنداتها الخاصة، مثلا، المسانَدة التي كان يلقاها الجيش الإيرلندي الانفصالي من طرف ليبيا، وأيضا استضافة السودان لابن لادن، عندما كان مجرد منشقّ سعودي، قبيل التاريخ المشار إليه أعلاه، بل واستضافة ألمانيا وبريطانيا والسويد كلَّ المعارضين والمنشقين الإسلاميين في الدول العربية، وخاصة بريطانيا. لكنْ، لِمَ لمْ يعد الأمر ممكنا اليوم؟ لمَ تبرأت ليبيا مثلا، من مساندة من تعتبرهم «مناضلين ومتحررين»، بل وسلمت مشروع برنامجها النووي للغرب، دون حتى أن يطلب هو منها ذلك؟ لمَ طردت السودان، في المثال السابق، أيضا، بن لادن؟ ما الذي تغير حتى أصبح الأفغان العرب يتحولون من «مجاهدين» يلقَوْن التشجيع الصريح من حكوماتهم إلى «إرهابيين»، مطارَدين في كل مكان؟ لماذا اختلفت الدول، بل وتناقضت، في التعامل مع كارلوس، الشيوعي، واتفقت في تعاملها مع بن لادن الأصولي؟ لماذا سارعت كل حكومات العالم، ومنها الحكومات العربية، إلى «الاجتهاد» و«الإبداع» في إدانة ما وقع في 2001؟ ألم تكن إحدى ذرائع الإطاحة بصدام حسين هي دعمه تنظيمَ القاعدة، كما قال وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول، حرفيا، في الأممالمتحدة؟ وبالمقابل، لِمَ تغُضّ الولاياتالمتحدةالأمريكية الطرف عن المستبدين العرب الآخرين؟ أليس لكونهم يستجيبون لشروط المرحلة؟ ثم، لماذا أنشأت الولاياتالمتحدةالأمريكية سجن «غوانتانامو»، غير المسنود قانونيا، دون أن يثير حفيظة دول العالم؟!... كل هذه الأسئلة تقودنا إلى جواب واحد هو أننا في زمن «عولمة» كل شيء، عولمة المفاهيم، وأيضا عولمة تعريفاتها وحدودها، ومنها عولمة مفهوم الإرهاب وتعريفاته، بل وعولمة من ينبغي أن يوصف بكونه «إرهابيا».. فمفهوم الإرهاب توقف عن أن يكون حكمَ قيمة وأضحى في ظاهره، حتى الساعة على الأقل، حكما مطلقا يوجب المساومة في حالات التردد، والأخطر هو أنه «يُشرعن» (من المشروعية)، لكل أشكال العدوان والهمجية والتدخل في الشؤون الداخلية للدول وانتهاك سيادتها... وأحد تجليات هذه العولمة المفهومية هو سيطرة منطق ثنائي القيمة، فإما أن تكون «معنا»، أو أن تكون «ضدنا»، فإنْ كنتَ معنا، فتوبتك «تمحو» كل خطاياك السابقة، كما حصل مع ليبيا والسودان والجزائر وتركيا وكولومبيا والشيلي وغيرها كثير... وتسمح لك بكل شيء، لنلاحظْ، مثلا، كيف أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تعلق على طرد ساركوزي الغجرَ الهنغاريين، لكونه أحد أعمدة السياسة الدولية في هذه المرحلة، وكذلك الشأن مع إسرائيل، في مجازرها اليومية في حق الشعب الفلسطيني، ولنلاحظْ، أيضا، كيف يتعامل الغرب بنفاق كبير مع المستبدين العرب، وعلى رأسهم «عميدهم» القذافي، فقد «تاب» الرجل وحذف اسمه من لائحة الإرهاب ونُصبت له خيمة نزولا عند رغباته الكثيرة، وهو الذي كان لا يسافر إلا برا إبان الحصار الجوي، فهل لأنه أصبح ديمقراطيا؟ لا طبعا.. فهو «مال» حتى تمر رياح عولمة مفهوم الإرهاب، كي لا يقع له ما وقع ل«حليفه السابق» صدام حسين... أو أن تكون ضدنا، فيُكتَب اسمك على لائحة الداعمين للإرهاب، لتبدأ سلسلة المضايقات وأنواع الحصار في أفق تركيعك، وهذا ليس محض تأويل، كما قد يعتقد البعض، بل إن السياسة الخارجية الأمريكية مؤسسة، بالكامل، منذ 2001، على هذه الثنائية، والتي صرح بها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، حرفيا... بن لادن.. أو النقيض المعولم في مقابل كل هذا، ألا يجدر بنا وضع مسافة مع الحدود المعولمة لهذا المفهوم؟ ليس في اتجاه تبريره، كما يفعل أغلب الذين تستضيفهم قناة «الجزيرة»، من منطلق واضح بل وفاضح، وإنما لوضع مسافة في اتجاه المحافظة على طبيعته النسبية، حيث لا ينبغي علينا أن ننسى كونه حكم قيمة، وسيظل كذلك. والمدخل لحصول هذه المسافة هو النظر في تاريخ الحضارة الغربية ككل، والسعي إلى الوقوف على ثوابت العقل الغربي، والذي يُعتبَر مفهوم النقيض مكونا بنيويا فيه، بمعنى آخر، فمن يقرأ الحضارة الغربية بعمق، سيتوصل إلى أن ما يجري الآن، في ما وراء «البروباغندا» الإعلامية، أي في ما وراء المباني المتهاوية لبرجَيْ التجارة العالمية وصرخات الاستنجاد، الصادرة عن الضحايا قبل الانهيار، وذهول أعين المتفرجين والهاربين. فما يجري خلف كل هذا ما هو إلا نسخة عن خاصية ثابتة في الحضارة الغربية، وهي أنه في حاجة، دوما، إلى نقيض وعدو، فكما أن شجرة التفاح تعطينا التفاح وليس فاكهة أخرى، فإن الحضارة الغربية تعطينا النقيض، لأنها في حاجة، دوما، إلى النقيض، بل وتتنفس جيدا عندما تجد نقيضها، وكل سياساتها الداخلية والخارجية والاستخباراتية، بكل أنواعها، مصنوعة قبليا للتعامل مع نقيض نكرة، قد تضطر هي لصنعه، إنْ أمكن الأمر، فليس المهم أن يكون موجودا، فقد يكون متخيَّلا أو متوهَّماً، إذ المهم هو أن يحافظ على وظيفته كنقيض.. من هنا، فليس من مصلحة الغرب، اليوم، أن يستسلم بن لادن أو يُقتَل، وإن قتل أو مات، ستصنع «نسخة» منه أو طوطمه حتى! وإن تغيرت قواعد اللعبة تماما، كما وقع إبان أحداث 11 شتنبر، فإنه لا مندوحة لأمريكا ولحلفائها من صنع نقيض آخر، قد يكون هو الصين، حسب ما يظهر في الأفق، أو قد يتم استيراده من خارج كوكب الأرض، إن اقتضى الأمر ذلك، وهذا احتمال قد يبدو للبعض طريفا، ولكنه يبقى، أيضا، محتمَلا جدا على المستوى البعيد، لاسيما أن نسبة مهمة جدا من المواطنين الغربيين يعتقدون بوجود كائنات فضائية زارت الأرض في ما مضى، وأنها ستعاود الزيارة.. يكفي أن نُذكّر هنا بإحصائية صحيحة ودقيقة تخص هذه النقطة، وهي أن 40% من الأمريكيين يعتقدون أن حكومتهم تخفي حقائق في موضوع الكائنات الفضائية.. أما الطريف الحقيقي في الأمر، والذي يؤكد قولنا السابق، فهو أن شركات تأمين عديدة تستفيد من هذا الخوف القادم، فكيف لا تستفيد هي نفسها من خوف حقيقي رأى العالم كلُّه جحيمَه في 11 شتنبر؟ إن المطلع العادي على أسس الفكر الغربي الحديث والمعاصر سوف لن يجد أي جديد في هذا التحليل، لأنه يعرف أن مفهوم النقيض وكذا مفهوم الأزمة، يكادان يتماهَيان مع طبيعة العقل الغربي، وهذا لا ينحصر على مجال دون آخر، مع التأكيد أن هذه الخاصية الصميمية في العقل الغربي تظهران أكثر في مجالا السياسة والاقتصاد، ربما هي روح هيغل ما تزال مهيمنة، بجلال قدرها، في إفهامنا هذه الخاصية، فالأفق الثقافي الغربي يصنع نقيضه من رحِم أزماته، ليخرج أكثر قوة وصلابة ومرونة أيضا.. ومخطئ من يقارب الحضارة الغربية خارج هذه الخاصية، نعَم، الحضارة الغربية تعيش اليوم أزمة اقتصادية، وأزمة قيم ومعنى وأزمة ازدواجية، لكنها أزمة حيوية ينبثق منها «التاريخ» بالتعريف. ونعود لنؤكد أن كل التحليلات التي تبشر ببداية النهاية، عقب كل أزمة يعيشها الغرب، هي تحليلات يحكمها منطق التمني والحلم ولا يحكمها منطق القراءة العميقة للحضارة الغربية، فعندما كانت هذه الحضارة تخوض حربها الباردة مع المعسكر الشيوعي، كان مفهوم النقيض حاضرا كميكانيزم في إدارة هذه الحرب وكانت طبيعة هذا العدو تفترض أن تتم إدارة الحرب معه باستعمال نقيض آخر، ليؤدي المهمة «بالوكالة عنها». ولما كان هذا النقيض الثانوي غافلا عن الأمر، بضعفه وانقسامه، فقد صنعت منه الحضارة الغربية نقيضا قويا في مواجهة النقيض الرئيسي، هذه هي الخلفية التي جيَّشت بها أمريكا وحلفاؤها آلاف المسلمين الشباب، لمحاربة «الشيوعي الملحد» وإخراجه من بلاد المسلمين، أو هكذا أقنعتهم، وعندما أذلوا بسواعدهم وأسلحة أمريكا الجيش الأحمر الجرار واحترفوا القتل وبرعوا في فنونه، وجدت لهم أمريكا نفسُها عملا آخر هو أن يشتغلوا «نقيضا» عندها، يلملم شتات العالم على صعيد واحد ووحيد تلعب فيه هي قطب الرحى وتعود هي بذاتها لتحتل «بلاد المسلمين»، لتطوى الصفحة ويبدأ تاريخ جديد، بعنوان عريض «عالم ما بعد أحداث 11 شتنبر». عولمة الاقتصاد السياسي للخوف ما الذي تستفيده الحضارة الغربية، اليوم، من عولمة نقيضها إذن؟ كيف حولت أمريكا، تحديدا، الخوف من الإرهاب إلى أداة ابتزاز، بل وإلى مصدر ربح، أساسا؟ بأي معنى يمكن الحديث عن اقتصاد سياسي للخوف؟ نبدأ الإجابة على هذه الأسئلة من ما بعد 11 شتنبر، فقد هبّت رياح قوية وفق منطق «معي أو ضدي»، السابق ذكره على كل العالم الإسلامي، والعربي خاصة، وتجندت حكوماته لملاءمة الحياة العامة كلها مع المرحلة الجديدة، فغيرت تحالفاتها الدولية ومقارباتها الأمنية وغيرت برامجها التعليمية، بل ومنها دول وضعت جلاديها وسجانيها المشهورين في فنون التعذيب رهن إشارة أمريكا، ضد أعضاء أمريكا، فقد نجحت هذه الأخيرة في إحراج هذه الحكومات وتحميلها مسؤولية ضمنية عما حصل لها، وكل ما قدمته وستقدمه هذه الحكومات ما هو إلا دين عليها سداده لكبرياء أمريكا المخدوش، ولنا في النموذج السعودي الحجة القاطعة على صحة الحديث عن اقتصاد سياسي للخوف. ونقول كم يسهل على أمريكا أن تحتل السعودية، خاصة أن نقيضها الأول «بن لادن» سعودي وأغلب منفذي 11 شتنبر هم سعوديون أيضا، والفكرة ليست من صنع الخيال، بل كانت مطروحة عند المحافظ الجدد، بل أكثر من هذا، فقد طرحت فكرة تقسيمها إلى ثلاث دول صغيرة، لكن منطق الربح بأقل تكلفة كان الحكم في تأجيل المشروع، فالسعوديون استشعروا الأمر وشعورهم بالحرج تجاه ما فعله أبناء جلدتهم ب«أم الدنيا»، لذلك فهُم على استعداد ليقدموا لأمريكا ما ترغب فيه بأقل تكلفة، فالنفط السعودي يوجه للمخزون الأمريكي دون أن يكون الأمريكيون مجبَرين على إتيان فعل من هذا القبيل، ناهيك عن تزويد الآلة العسكرية الجبارة في الخليج بالبنزين، بل ومنحها -طواعية- قواعد على أراضيها، مع أنها أصبحت، قانونيا، تحت السيادة الأمريكية، لأننا عندما نقول قاعدة أمريكية فإننا لا نقصد «ثكنة» من بضع هكتارات، بل «مساحة سيادة داخل سيادة»، والأخطر هو صفقات الأسلحة التي ما فتئت تعقدها السعودية مع أمريكا، كان آخرها وأكبرها على الإطلاق، صفقة بمقابل مادي ضخم جدا، هو 60 مليار دولار. وعندما نتحدث عن مبلغ كهذا، وفي ظل الأزمة العالمية الحالية، فإن بعض الصحف الأمريكية، نظرت إلى الصفقة على «هبة من السماء، لأن الله يحب أمريكا». أما المبرر الذي قدمته السلطات السعودية فهو مواجهة الخطر الإيراني وخطر القاعدة، وكلاهما عدُوان لأمريكا، فإذا افترضنا أن السعودية ستستعمل هذه الأسلحة ولا تبقى حتى يعتريها الصدأ، فإنها ستخوض حربا «بالوكالة»! أما الأهداف الأمريكية المباشرة للصفقة، فهي -حسب صحيفة «وول ستريت جورنال»- توفير 75 ألف منصب شغل، بل ويتم على هامش هذه الصفقة، حسب الصحيفة ذاتها، مناقشة صفقة أخرى بقيمة 30 مليار دولار ل«تحديث القوات البحرية»، وهنا ينطرح السؤال: «هل كانت أمريكا ستنال هذه «الهبات السماوية» لو لم يكن النقيض مخيفا ومفزعا؟ تسْهُل الإجابة عن هذا السؤال، إذا فحصنا قرائن كثيرة تفيد، بالحجة القاطعة، أن أمريكا قتلت، بدل 3000 شخص الذين سقطوا في 11 شتنبر، مئات الآلاف، وخسر العالم آلاف المرات ما خسرته أمريكا، فقد خسرت «بلاد العم سام» مرة واحدة، وسيبقى العالم، وخاصة العرب، لكون النقيض الحالي ينتمي إليهم، (سيبقى) يؤدي غاليا ثمن «خسارتها»، هذه هي عولمة الخوف والاقتصاد السياسي الذي يستتبعه...
عولمة الإرهاب وخوصصة الأمن أحد أوجه الاقتصاد السياسي للخوف هو انتشار شركات عملاقة مهمتها توفير الأمن، وطبعا القيام بالمهام القذرة التي لا تسمح بها «العقيدة» العسكرية للجيش النظامي، فتكلفة الجيش النظامي تبقى غالية جدا، خصوصا على مستوى الرأي العام الداخلي، فعندما كان الأمريكيون يشاهدون آلاف النعوش تُحمَل على الأكتاف لتُدفَن إبان حرب فتنام، شكلوا جبهاتٍ داخليةً قوية ضد الحرب، بشكل جعل الولاياتالمتحدة تنسحب بإذلال، فاستدركت الأمر في العراق وأفغانستان، وهما ساحتان لحرب معولَمة، حيث تتعاقد الدولة مع شركة أمن خاصة، بموجب عقد يكلفها بمهام صعبة قد تحصد أرواحا كثيرة. ولأن الكلفة تكون أغلى عند الرأي العام، خصوصا في مجتمع ديمقراطي انتخابي، فإن القتلى في صفوف عناصر الشركة الأمنية لا ينتبه إليهم أحد، والجانب الخطير في هذا التحول في إدارة الحرب هو العودة إلى تقاليد الجيش الروماني القديم، والذي يعتمد في غالبية عناصره على المرتزقة، والذين يحاربون ويغامرون بأرواحهم مقابل المال، وليس لقناعات مذهبية ما، فلم يعد الأمر كما كان في الحرب العالمية الثانية مثلا، عندما كان الشبان يُضَحُّون بأنفسهم قربانا للحرية والقيم الإنسانية، كما يصور ذلك فيلم توم هانكس «إنقاذ الجندي ريان»، بل إننا أمام تصور جديد للحرب، يقوم على كون المهمة الأساسية للمتعاقِد هي القتل، دونما حاجته إلى شرف المحاربين القدامى، وأهم هذه الشركات وأكبرها «بلاك ووتر»، التي أثبتت عناصرها ما قلناه سابقا، حيث إن عدد القتلى في صفوفهم لا يتم حسابه ضمن ضحايا الحرب، وحيث إن جرائمهم هي بالفظاعة التي جعلت الحكومة العراقية تلغي التعاقد مع هذه الشركة، لكنها -حسب تقارير صحافية كثيرة- استطاعت أن تعود تحت مسمى آخر، فأمام ضبابية المشهد العراقي والأفغاني، سياسيا ومذهبيا وأمنيا، فإن كل المسؤولين في العراق وأفغانستان تحرسهم شركات أمن أجنبية خاصة، لأن مشكل الولاء يظل قائما، بل وفي دول الخليج، أيضا، كالإمارات وعمان وقطر، قطر التي ستتحول، في أفق تنظيمها كأس العالم 2022، إلى مرتع لهذه الشركات الأمنية، لأنه، عمليا، لا يمكن لبضعة آلاف من أفراد الجيش والأمن القطريين أن يضمنوا أمن مئات الآلاف من المتفرجين، خصوصا في منطقة مفعَمة برائحة عولمة الإرهاب...