لعل من أكبر العوائق في وجه التقريب عدم استكمال المذهب الإمامي لتحرير رواياته وتنقيحها.. وصولا إلى التمييز العلمي المنهجي الصارم بين صحيحها وضعيفها. حقا، إن أهل السنة أيضا لم يقوموا بمجمل هذا العمل بالنسبة إلى جميع رواياتهم، لكن البون بين الفريقين شاسع هنا. ذلك أن أهل السنة قاموا بهذه المهمة منذ قرون، وبنسبة عالية، شملت أكثر الأحاديث المسندة، بحيث تتوفر مكتبتهم الحديثية على مصادر الصحيح ومصادر الضعيف، بل حتى الموضوعات جمعوها في كتب خاصة.. ولا يوجد عند الإمامية مثل هذا العمل، وإن بذلوا جهودا في هذا السبيل.. وهي جهود مشكورة قام بها بعض الرجاليين منهم والأصوليين، ولولاهم لأفسدت فوضى الرواية المذهب كله. إن هذه القضية من أعقد مشكلات التشيع اليوم، لذلك لا أستطيع أن أفصل فيها الكلام. وبين يدي أطروحة حيدر حب الله في أكثر من ثمانمائة صفحة، كما بين يدي غيرها، لكنني أعتبر أن دراسة حيدر «نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي.. التكون والصيرورة» من أفضل وأجمع وأدق الدراسات الإمامية التي صدرت في هذا الموضوع. لهذا يوجد أمل في أن يستطيع الشيعة إنجاز مهمة غربلة الرواية بنجاح. وليتعرف القارئ الكريم على أهمية هذا الموضوع، أنقل إليه رواية الهجوم على بيت فاطمة رضي الله عنها: رفض علي بيعة أبي بكر، فحمل زوجته فاطمة الزهراء على دابة، وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين.. يدور على بيوت المهاجرين والأنصار، ويذكرهم بحقه ويدعوهم إلى نصرته. ولكنهم لم يستجيبوا له إلا أربعة وأربعون رجلا، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤوسهم، ومعهم سلاحهم، ليبايعوا على الموت، فأصبحوا لم يواف منهم أحد إلا أربعة، هم سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير. فلما رأى غدرهم وقلة وفائهم لزم بيته، وأقبل على القرآن يجمعه... وأرسل أبو بكر إليه: «أجب خليفة رسول الله». فأتاه الرسول فقال له ذلك، فقال له: «سبحان الله ما أسرع ما كذبتم على رسول الله، إنه ليعلم ويعلم الذين حوله أن الله ورسوله لم يستخلفا غيري... سبحان الله ما والله طال العهد فينسى. فوالله إنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلا لي، ولقد أمره رسول الله وهو سابع سبعة فسلموا علي بإمرة المؤمنين».. ثم إن أبا بكر أرسل شخصا اسمه قنفذ، فانطلق فاستأذن على علي، فأبى أن يأذن له، فقال عمر: إذهبوا فإن أذن لكم وإلا فادخلوا عليه بغير إذن!.. فقالت فاطمة: «أحرج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير إذن» . فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء! ثم أمر أناسا حوله أن يحملوا الحطب، فجعلوه حول منزل علي، ثم نادى: «والله لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله، وإلا أضرمت على بيتك النار»! ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب، ثم دفعه فدخل، فاستقبلته فاطمة عليها السلام وصاحت: «يا أبتاه يا رسول الله». فأخذ عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها، ثم رفع السوط فضرب به ذراعها، فنادت: «يا رسول الله، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر». فوثب علي عليه السلام فأخذ بتلابيب عمر ثم نتره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهمّ بقتله، فذكر قول رسول الله (ص) وما أوصاه به. فتناول بعضهم سيوفهم فكاثروا عليا، وضبطوه فألقوا في عنقه حبلا! وحالت بينهم وبينه فاطمة عند باب البيت، فضربها قنفذ بالسوط، فماتت حين ماتت وإن في عضدها كمثل الدملج من ضربته. ثم انطلق عمر بعلي عليه السلام يعتل عتلا حتى انتهى به إلى أبي بكر، وعمر قائم بالسيف على رأسه. وكان قنفذ لما ضرب فاطمة بالسوط، ألجأها إلى عضادة باب بيتها ودفعها فكسر ضلعا من جنبها، فألقت جنينا من بطنها. فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة. أما علي فقد رفض أن يبايع تحت تهديد السيف، وقال: فإن لم أفعل فما أنتم صانعون؟ قالوا: نقتلك ذلا وصغارا. فقال عليه السلام: إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله. فقال أبو بكر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسول الله فما نقر بهذا. ثم قال عمر: قم يا ابن أبي طالب فبايع. فقال: فإن لم أفعل؟ قال: إذن والله نضرب عنقك، ثم مد يده من غير أن يفتح كفه، فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك منه. فنادى علي عليه السلام قبل أن يبايع، والحبل في عنقه: «يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني». هذا مختصر عدد من الروايات المنتشرة بكثرة في التراث الإمامي، وأهم مصدر لقصة هذا الهجوم على فاطمة هو كتاب سليم بن قيس الذي عرفنا حاله في مقال سابق. ويكفي لتعرف حقيقة القصة أن الشيعة الزيدية يكذبونها ولا يعترفون بها. ولعل بعض القراء السنّة يعجبون من هذه الأسطورة التي ظهرت في القرن الرابع، لكنهم قد لا يدركون أن كثيرا من أهل العلم الإمامية، فضلا عن العوام، يؤمنون بصدق بكل حرف جاء في هذه الرواية وأمثالها. لذلك، فإن قصة الهجوم على بيت فاطمة -مع غيرها كمسألة فدك- من أعظم الأسباب في إفساد صلة الفريقين بعضهما ببعض، حتى إنه موضوع دائم في مجالس العزاء، ومحور عدد كبير من اللطميات. ويكفي لتدرك أهمية المسألة أن تطلع على كثرة الكتب والرسائل التي ألفها الإمامية في ما يسمونه: مأساة الزهراء أو مظلومية فاطمة.. حتى إن الشيخ حسين فضل الله لمّا شكك في بعض عناصر قصة الهجوم وُوجه بردّ فعل عنيف من طرف بعض علماء الإمامية، ما بين مخطّئ ومبدّع. لذلك من أكثر القضايا استعجالا اليوم للبحث والدراسة: تحرير قصة فاطمة، ومسيرة حياتها جميعا، تحريرا علميا موضوعيا. فليتَ باحثا مقتدرا يقوم بجمع كل الروايات عن فاطمة رضي الله عنها ويدرسها ويصنفها وينقدها، على نحو ما فعل العسكري في روايات ابن سبأ. فيحرّر لنا قصة فاطمة، ويميز الصحيح من الموضوع، بمنهج العلم والموضوعية، ويقدم إلينا أول تأريخ علمي شامل لحياتها، وأقربه إلى الذي حدث فعلا. ليت أحدا يقوم بهذا، ويصرف له سنين من عمره عددا.. يكون قدّم إلى التقريب وغلى الأمة خدمة لا تقدّر، وحفظها من شرور لا تظهر. يتبع...