قليلة هي المعلومات التي تسربت عن حزمة وثائق موقع «ويكيليكس»، ولكن هناك حالة من الرعب تسود أكثر من عاصمة عربية لأن هذه الوثائق ستكشف عن أسرار العلاقات السرية العربية الإسرائيلية، وفصول التآمر العربية العربية، والتحضيرات للحرب على إيران. الوثائق الجديدة لا تتعلق بالحرب في أفغانستان، ولا وقائع التعذيب وإخفاء المعلومات في العراق مثل سابقاتها، وإنما أيضا بدهاليز السياسة الخارجية الأمريكية في العالم بأسره، ورسائل السفراء الأمريكيين إلى حكومتهم، ولقاءاتهم السرية مع المسؤولين في الدول المضيفة، والعربية منها على وجه الخصوص، ولهذا لم يكن من المستغرب أن تكون دولتان عربيتان فقط من بين الدول التي اتصلت بهما الإدارة الأمريكية محذرة من تبعات كشف أسرار هذه المراسلات، وهما دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. لم تصدر أي معلومات، وحتى كتابة هذه السطور، تتناول مواقف أي دولة عربية، وطبيعة «تحالفاتها» مع واشنطن وربما إسرائيل أيضا، ولكن قرأنا، وحسب المعلومات الأولية، أن الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت تدعم حزب العمال الكردستاني، ماليا وعسكريا، ضد تركيا الحليف الاستراتيجي لواشنطن، مثلما قرأنا أيضا اتهامات للحكومة التركية بدعم تنظيم «القاعدة» وعملياته في العراق. دعم واشنطن لحزب العمال الكردستاني غير مستبعد إذا نظرنا إلى الانقلاب الكبير الذي وقع في السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط منذ أن بدأت حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة السيد رجب طيب أردوغان في إدارة ظهرها إلى أوربا مكرهة، والاتجاه إلى الشرق العربي والإسلامي حاضنتها الطبيعية. فمن المؤسف أن إسرائيل، واللوبي الصهيوني التابع لها، هما اللذان يتحكمان في البيت الأبيض، ويسيطران على آليات اتخاذ القرار في الإدارة الأمريكية، بما في ذلك قرار خوض الحروب في العالم، وبما يخدم المصالح الإسرائيلية على وجه الخصوص. وليس من قبيل الصدفة أن الحربين اللتين خاضتهما واشنطن في العقد الأخير كانتا ضد بلدين مسلمين هما أفغانستان والعراق، والحرب الثالثة قد تكون ضد بلد مسلم ثالث هو إيران. فطالما أن تركيا أردوغان مستهدفة إسرائيليا بسبب رفضها للحصار الظالم وغير الإنساني المفروض على قطاع غزة، فإنها ستكون مستهدفة أيضا من قبل واشنطن، لأنها ارتكبت إثمين رئيسيين من وجهة نظر الإدارة الأمريكية السابقة والحالية، الأول عدم مساندة الحرب على العراق والسماح للقوات الأمريكية الغازية بالانطلاق من الأراضي التركية، والثاني رفض المشاركة في العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران. تركيا باتت الآن في المرمى الأمريكي الإسرائيلي المشترك، ومسلسل التآمر عليها بدأ من خلال دعم حزب العمال الكردستاني الذي نشط في الفترة الأخيرة وكثف عملياته ضد أهداف تركية، سواء في قلب العاصمة التجارية إسطنبول (عملية تفجير في ميدان تقسيم الأشهر) أو بالاشتباك مع القوات التركية في شرق البلاد حيث الكثافة السكانية الكردية. الحلف الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل انهار لأن تركيا أردوغان أدركت أنه حلف غير منطقي، ومثل «مسجد ضرار» الذي أقامه المشركون والمنافقون للتآمر على الدعوة المحمدية الوليدة، حلف إخراج تركيا من ماضيها العثماني والإسلامي، دون أن يحقق لها حلم أتاتورك بالانضمام إلى الفضاء الأوربي، فخلعت الطربوش ولكن لم يُسمح لها بارتداء القبعة الأوربية التي ضاقت عليها كثيرا، بينما اتسعت للكثيرين الآخرين لأنهم من غير المسلمين. الإسرائيليون «شيطنوا» تركيا لأن السيد أردوغان انتفض لكرامته وعقيدته ولقن شمعون بيريس، رئيس إسرائيل، درسا في الأخلاق وقيم الصدق والعدالة، عندما حضرا ندوة في مؤتمر دافوس الاقتصادي بسويسرا، وألحقها بوقفة شجاعة ضد العدوان الإسرائيلي وفسفوره الأبيض ضد المحاصرين المجوعين في قطاع غزة. إسرائيل الآن، وبعد أن نجحت من خلال عملائها في جماعة المحافظين الجدد (معظمهم كانوا من أبرز أنصار إسرائيل) في توظيف الآلة العسكرية الأمريكية الجبارة في تدمير العراق واحتلاله، وتمزيق أوصاله، وقتل هويته العربية، ها هي الآن تبدأ التآمر بكثافة ضد تركيا، وتحاول حصارها من خلال تشكيل حلف جديد يتكون من بلغاريا واليونان وقبرص وقريبا رومانيا وبعض دول البلقان الأخرى مثل مقدونيا وكرواتيا وصربيا والجبل الأسود (مونتينغرو). بنيامين نتنياهو زار أثينا وصوفيا وبوخارست، وكذلك فعل أفيغدور ليبرمان، وزير خارجيته، وتركا الدول الصغرى الأخرى للضباط الكبار في «الموساد» لتأسيس شبكة استخبارية موحدة ضد تركيا، التي احتلت هذه الدول في زمن إمبراطوريتها العظمى، أي أن المؤامرة الإسرائيلية تريد إحياء الأحقاد القديمة ضد تركيا واللعب على العنصر الديني. الخدمات الجليلة التي قدمتها تركيا إلى الغرب على مدى ستين عاما من خلال عضويتها في حلف الناتو جرى شطبها بمجرد أنها انتصرت للمحاصرين في قطاع غزة، وتبنت محاولات كسر الحصار من خلال سفن الإغاثة، ورفضت وهي السنية، الحصار الأمريكي على إيران الشيعية في أبلغ التزام بالوحدة الإسلامية والترفع عن التقسيمات الطائفية البغيضة التي بذرت أمريكا وإسرائيل بذورها في العراق، وتريدها أن تنتشر في المنطقة بأسرها. من المفترض أن تكون اليونان حليفة للعرب الذين وقفوا معها عندما كانوا في المعسكر الاشتراكي، وكانت تركيا في المعسكر الأمريكي الرأسمالي، ولكن عرب اليوم، وخاصة مصر الرسمية، هم مع إسرائيل في الخندق المقابل لتركيا، ولذلك لن تجد حكومة اليونان غضاضة في التجاوب مع التحريض الإسرائيلي طالما أن عربا كثيرين باتوا يتآمرون على تركيا ويستهجنون وقوفها ضد الحرب في قطاع غزة. السيد أردوغان ودهاقنة حزب العدالة والتنمية على وعي كامل بالمؤامرات الإسرائيلية، ولا بد أنهم توقعوها ووضعوا الخيارات اللازمة للتعاطي معها أو هكذا نعتقد، فهؤلاء ليسوا مثل جيرانهم العرب، فاقدي الإرادة والعزيمة، فقد أقاموا دولة مؤسسات، وأسسوا جيشا قويا، ورسخوا قيم الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، وقدموا صورة ناصعة حضارية وعلمية للإسلام، فلا غرابة في أن يخرج مئات الآلاف لاستقبال أردوغان أثناء زيارته الأخيرة لبيروت، على عكس زعماء عرب يزورونها تسللا ولا يشعر بوجودهم أحد. حزب العدالة والتنمية مارس عملية تصحيح لمعادلة مشروخة عندما أعاد تركيا إلى هويتها الإسلامية المشرقية، وفضح إسرائيل كدولة عدوانية متآمرة تشكل عنصر عدم استقرار وتهديد للمصالح الغربية في المنطقة. أردوغان قالها صريحة: إن تركيا لن تسكت على أي عدوان إسرائيلي على لبنان، ولخص بذلك دور تركيا الجديد في المنطقة. لم نسمع مثل هذه العبارة القوية من أي زعيم عربي، ولا نستثني أحدا، فهل نحن على أبواب عملية تغيير واسعة؟ نعتقد أن العجلة بدأت في الدوران، ولا بد أن وثائق «ويكيليكس» ستجيب، بشكل أكثر تفصيلا، عن هذا السؤال وغيره من الأسئلة.