سبق للروائي لوي فيردينان سيلين أن أشار، في فترة كانت فيها فرنسا قيد جمع أشلائها، إلى أن الضواحي ستبقى دائما ممسحة لأقدام باريس. وبعد مرور ستة عقود على هذه الملاحظة، لم تتغير أحوال الضواحي، بل زادت استفحالا، إذ تماهت مع مرآة الإسمنت، ونزعت عنها كل إنسانية، وبالتالي أصبحت مفرخة للعنف والعنف المضاد. في موضوع الضواحي أنجزت مئات الأبحاث والأطروحات، وعقدت الندوات والمنتديات، كما عينت امرأة سليلة الهجرة المغاربية وزيرة للدولة على رأس مشروع وصف بأنه «مشروع مارشال» هدفه إعادة تأهيل الضواحي والأحياء الهامشية وإعادة إدماجها في قلب المدن. لكن لا شيء من هذا المشروع رأى النور، إذ لا تزال مدن الإسمنت على حالها. تتميز الدراسة التي أنجزها الصحافي والباحث حسن بلمسوس بمعالجتها موضوعا لم يدرس بما فيه الكفاية، ويتعلق بالحرب التي تعدها الدولة ضد الضواحي، وهي حرب تقوم على خطة شاملة ومنهجية. ما بين 1977 و 2003 سعت سياسة المدينة إلى «إعادة ضخ القانون الجماعي» في الأحياء. لكن منذ ذلك التاريخ، ومن خلف الخطابات الفخمة، انبثقت سياسة أخرى وبشكل سري: إعداد حرب شاملة على الضواحي، التي تم تحويلها إلى «غيتوهات» إثنية، السبيل الوحيد للتخلص منها هو استئصالها بالقوة. كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ يتساءل الصحافي ولماذا ألصقت بهذه «المساكن ذات الكراء المعتدل» HLM لصقات وأوصافا مبسطة، بل سلبية تجهل واقعها وتزج بها في الهامش؟. لمدة 30 عاما تغيرت الألقاب والمواصفات، التي علقت على واجهاتها. إذ عرفت تارة ب«أحياء فقيرة أو غير محظوظة» وتارة أخرى ب«أحياء تعاني من صعوبات» أو «أحياء ذات حساسية» أو «مناطق ضائعة داخل الجمهورية»... أما اليوم فتعرف ب«مدن غيتوهات». تحيل هذه الأوصاف على مرجعية تقوم رمزيتها على الخطر الذي تمثله هذه المدن والأحياء. أما قاطنوها، وهم فرنسيون من أصول أجنبية أو من المهاجرين، فتحطيم شأنهم يعتبر رياضة وطنية وسلوكا عاديا، والرائج عنهم أنهم يستغلون أموال العمال الحقيقيين، كما أن مهنتهم تنحصر في الحصول على الرعاية، التي توفرها لهم «فرنسا الكريمة» والسخية. كما أنهم غير قادرين على تربية أطفالهم. منذ 2009 ألصقت بهم دعاية جديدة مفادها أنهم يسعون إلى حفر قبر للهوية الوطنية والمطالبة بقيم غريبة عن هذه الهوية. ثم جاءت أحداث مدينة غرونوبل في الصيف الماضي لتعيد إلى الواجهة كمونية العنف والبؤس في ضواحي قابلة للانفجار وطريقة التعامل السياسي الاستئصالي مع عنفها البنيوي. وكان التهديد بتجريد الفرنسيين المتحدرين من أصول أجنبية من هويتهم الفرنسية ذروة هذا التعامل. الحرب على الضواحي «صراع من أجل الهوية الوطنية» يمكن تلخيص هذا الخطاب العدواني في جملة واحدة: الوجود الدائم والمستمر لهذه الضواحي يشكل تهديدا للثقافة الفرنسية، إلى درجة انبثقت معها اليوم ظاهرة مخيفة هي تكاثر التصريحات المتكررة على الويب، وفي البرامج التلفزيونية والإذاعية، التي لا تعدو كونها سيلا من السب والقذف في حق سكان هذه الأحياء، الذين توجه لهم تهمة إشعال فتيل الفوضى، وأنهم غير أهل ليكونوا أعضاء ضمن الأمة الفرنسية. وقد عرفت هذه الملاحقة الجماعية أوجها خلال شتاء 2009 حيث لعب النظام دور الوسيط الدعائي والإشهاري لحرب الهوية بتنظيمه ندوات ونقاشات عن الهوية الوطنية، غير أن هذه الحمى لم تكن في واقع الأمر سوى محنة وطنية. سياسات المدينة بوصوله إلى وزارة الداخلية عام 2002، جعل نيكولا ساركوزي من مراقبة الضواحي هدفا من أهدافه الاستراتيجية، حيث دشن مسلسلا توسعيا يرمي إلى تطويق الضواحي ومراقبتها. وبوصوله إلى قصر الإليزيه لم يتردد في متابعة هذه السياسية. الحرب على الضواحي ليست وليدة اليوم. في البداية كانت الخطة تستهدف تغيير ملامح الأمكنة، التي لا تتوافق هندستها وعمرانها مع معايير الحياة العصرية. كانت حكومة ليونيل جوسبان، منذ عام 1997 سباقة إلى هدم العمارات الإسمنتية. وتبعا لمنطق المستثمرين العقاريين، فإن عملية الهدم هذه قد تمهد لإعادة تجديد هذه الأحياء. على أي، تشير التقارير والدراسات، التي أعدها المهندسون المعماريون إلى أن هذه العمارات أصبحت غير صالحة للسكن، وبالتالي يجب إعادة رسم فضاء جديد يتوفر فيها المجال ل»العيش المشترك» كما تشير العبارة المكرسة. وبموجب الاتفاقية التي أبرمتها الدولة مع الجماعات المحلية والمستثمرين، هدمت آلاف السكن من دون الأخذ بعين الاعتبار احتجاجات القاطنين الذين تم اعتبارهم غير مؤهلين لفهم قواعد «العيش المشترك» الجديدة. لكن خلف ضجيج الآلات والحملات الإشهارية لهذا «التجديد» الحضري كان الرهان داخل مكاتب المهندسين يدور حول هذه اليوتوبيا الجديدة، التي تتمثل في إعادة رسم هذه الأحياء تبعا لمقاييس بوليسية وحسب رؤية قمعية بهدف «محاربة الفوضى واللاأمن». وعليه تم التخلي عن الأجهزة العمومية المشاركة في إعادة التجديد الحضري. وكان من وراء هذه الخطة كل من جان-بيار رافاران لما كان على رأس الوزارة الأولى، ونيكولا ساركوزي لما كان وزيرا للداخلية. إذ لتهيئة الحرب على الضواحي والمدن المحيطية قرر الاثنان مطابقتها، بل إخضاعها لاستراتيجيات التدخل البوليسي: مزيد من الأزقة بلا منافذ، مزيد من الفضاءات الواقعة تحت مراقبة فيديوهات مشغلة باستمرار. بمنطقة السين-سان دونيه أخضعت غالبية المشاريع الحضرية لمراقبة البوليس قبل الموافقة عليها من طرف المديرية الجهوية للأمن العام. ويذكر المؤلف بأحد الاجتماعات التي تقرر فيها هدم عمارة لتشييد فضاء جديد مكانها، فما كان من ممثل وزير الداخلية سوى أن قرر هدم عمارة أخرى لتهيئتها لشروط استقبال البوليس وتسهيل التصدي لحرب العصابات التي قد تشهدها الضواحي. سبق لإيف لاكوست أن أعلن بأن الجغرافيا علم يستعمل لشن الحروب. ألا تنطبق هذه القاعدة أيضا على الهندسة المعمارية؟ خلال تنقيباته، اكتشف حسان بلمسوس بأن «غزو» الضواحي يعود إلى عام 2002، حين بدأ الإعداد للحرب في كل من وزارة الداخلية ووزارة الدفاع و بالمركز الوطني لتدريب قوات الدرك، التي يوجد مقرها بسان-آستييه. لبى ساركوزي رغبة وطموحات دعاة الحرب على الضواحي، مما دفع بالدولة إلى إرسال الجيش إلى المقاطعة 93، القلب الساخن للضواحي البئيسة. وكانت وفاة ثلاثة من رجال البوليس حجة وذريعة لهذا التدخل. قبل ذلك بيومين توفي أربعة من شباب الحي على إثر تبادل لإطلاق النار مع قوات الأمن، الشيء الذي تسبب في موجة من العنف قادت إلى الاعتداء في الأخير على رجال البوليس. لم يتردد النظام إذن في التدخل وإرسال العسكر إلى الضواحي. إذ اعتبر أن الوقت ليس للسياسة، و رأى في موت رجال البوليس رفضا للنظام العام، بل إعلانا للحرب على الدولة. في أحد الصباحات، أثناء اجتماع مجلس الدفاع والأمن الوطني، قرر ساركوزي إذن إرسال الجيش. أثار القرار استحسان الأغلبية السياسية الصامتة. لكن القرار لم ينل رضا الأغلبية داخل هيئة الجيش. اعتبر البعض في قطيعة ساركوزي مع المبادئ التي تقوم عليها المؤسسة خطأ فادحا. «مهمة الجندي هي كسب المعارك لا الحفاظ على الأمن في الشوارع». قرار ساركوزي للتدخل العسكري في «الأحياء الصعبة» لم يكن محصلة نزوة عابرة، بل اختمرت الفكرة في ذهنه غداة أحداث خريف 2005، داخل اجتماعات وزارة الداخلية، خلال النقاشات التي دارت حول نشاط البوليس والدرك الوطني والإمكانيات التي يتوفرون عليها للحفاظ على الأمن. تقوم الخطة على عزل المناطق «المتمردة»، وقطع المواصلات ما بين الفرق والعصابات. كما قرر العاملون في الاستراتيجية العسكرية استعمال الطائرات الشبحية للمراقبة الليلية والأنظمة الكارتوغرافية. الهدف هو إرسال معلومات إلى وحدات الجيش الموجودة في الأرض. إرسال الجيش إلى الضواحي الفرنسية ليس إذن محصلة سيناريو خرافي، بل تم التفكير فيه قبل أحداث خريف 2005 .
الضواحي سوق جديد للحرب الحضرية غذى كبار المسؤولين الساركوزيين هذه الدوامة، التي خلقت وفي كل المناسبات فرصا للنظام لإجراء تجارب ووضع خطط ضد الضواحي. وفي هذا الصدد، يشير عالم الاجتماع ماتيوه ريغوست إلى أن «معركة غرونوبل التي شهدت مواجهة بين البوليس وعصابات مسلحة، والتي أدت إلى وفاة أحد المهاجمين من الشباب كانت مناسبة بالنسبة للاستراتيجيين في الجيش لاختبار تقنيات جديدة تم طرحها في الأسواق العالمية المتخصصة في الأجهزة التكتيكية الجديدة. وعليه تحظى الدولة بدعم شركات الدفاع والأمن. تتكئ هذه الشركات على تجاربها وإنجازاتها في الحرب الحضرية وفي ميادين الصراع مثل العراق، أفغانستان، ساحل العاج. وتعتبر شركة طاليس أولى الشركات التي قدمت خدماتها في هذا المجال للدولة الفرنسية. وتهدف اليوم إلى بيع النظام الذي ابتكرته في عنوان «هيببيرفيزور» للمسؤولين عن مشروع باريس الكبرى. إلى الآن تعتبر مكسيكو أولى مدينة «تسلحت» بهذا الجهاز. ولو اقتنته باريس، فإن التكاليف قد تقارب 95 مليون أورو، حسب مدير الأمن الحضري بشركة طاليس.
مراقبة بواسطة كاميرات الفيديو في حربها الضواحي ترى الدولة أنها تتوفر على سلاح ناجع، ألا وهو جهاز «المراقبة بواسطة الفيديو»، وهي عبارة حلت محلها سنة 2008 كلمة «الوقاية بالفيديو»! في 2 نوفمبر 2009 فسر وزير الداخلية بريس هورتفوه أمام لجنة للبرلمان بأن هذا الجهاز ناجع لأنه ساعد على تراجع نسب الإجرام التي تقلصت بمعدل مرتين في الجماعات، التي تلجأ لاستعماله مقابل تلك التي لا تستعمله. يعتبر بريس هورتفوه بأن هذه المراقبة تمثل أملا لمستقبل خال من النزاعات والمواجهات. «المراقبة بواسطة الفيديو هي تقنية المستقبل. وتحاول شركات السكك الحديدية والميترو تطوير استعمالاتها. وتتوفر شبكة النقل على 12000 كاميرا» يشير الوزير الذي يؤكد في جميع تنقلاته على أهمية وحيوية هذه التقنية. وقد ساهمت الدولة بميزانية 21 مليون أورو في التمويل المشترك ل75 مدينة في مجموع فرنسا. هذا الهوس التكنولوجي يبقى ثابتا في السياسة الساركوزية. وفي خطابات المسؤولين وتبعا لمنطق اختزالي وتبسيطي تم المزج، بل الخلط، بين المراقبة عبر جهاز الفيديو والمبادئ الديمقراطية الكبرى مثل «قوانين الجمهورية» و«الحريات الأساسية»، وهي تزاوجات للإثارة. في غزوها للضواحي، قررت الدولة احتلال كل متر مربع من هذه الأحياء. ولهذا الغرض، لم تتردد في استعمال الوسائل القسرية. أما عمدات المدن، الذين يرفضون وضع كاميرات للمراقبة فإنهم لا يلبثون، تحت الضغط، أن يستسلموا للأمر الواقع باسم المصلحة الوطنية التي تختلقها الدولة. غير أن العديد من الدراسات أثبتت عدم نجاعة نظام المراقبة بواسطة الفيديو، كما جاء في دراسة قام بها الباحث إيريك هايلمان عام 2007 بعنوان «المراقبة عبر الفيديو، سراب تكنولوجي وسياسي». نفس النتيجة توصلت إليها دراسة أعدها معهد الإصلاح والعمران لناحية فرنسا، لكنها أبانت عن محدودية نجاعتها. غير أن الدولة وبالرغم من هذه النتائج، بقيت على قناعتها بأهمية استعمالها. في الأخير يبقى المستفيد من الدعاية والنضال من أجل أجهزة المراقبة عبر الفيديو هي الشركات المنتجة والمروجة لها. تجدر الإشارة إلى أن سكان هذه الأحياء، بمن فيهم الشباب، ليسوا ثوريين خطرين وعلى أهبة القيام بانتفاضة أو من دعاة استقلال الضواحي. ماذا يريدون إذن؟ وما هي طموحاتهم؟ طموحهم الأول هو العدالة. العدالة في الحظوظ، في الالتحاق بالمدرسة، في الحصول على الشغل والسكن والثقافة، وأخيرا العدالة في الممارسة السياسية. المطلوب اليوم هو التصدي لأسطورة الأيديولوجية الأمنية التي تؤدي تدريجيا إلى خلق شروط الحرب الأهلية. ذلك أن التحكم البوليسي في الضواحي هو محصلة مجتمع انعدم فيه النقاش في مسألة «العيش المشترك». إذ أن هذه الفرمولة الفضفاضة التي تم استعمالها كيفما اتفق تسببت في خلق بلبلة كبرى. بحديثه عن الضواحي بصفتها أماكن تساهم في «شل فرنسا»، يكون النظام الساركوزي لأعوام 2000 قد قدمها كأمكنة غير شرعية، بل كبؤر ل«الإرهاب» تبرر نهج السياسة الأمنية، هذه السياسة التي ينظر لها كذرع أو كحزام واق ضد الحرب الأهلية. إنها استراتيجية رئيس اليمين الليبرالي الجديد، التي قادت الرأي العام إلى هذا البديل المزيف، إلى درجة أصبح معها جهاز البوليس هو المؤسسة الوحيدة القادرة على العناية بما يسمى ب«العيش المشترك»! لكن التسيير الأمني والبوليسي للمجتمع وكما أثبتت التجارب ذلك لا يفضي إلى أي نتيجة، بل يبقى مجرد وهم.