تأوي فرنسا اكبر جالية مغاربية في فرنسا ترجع أساسا إلى القرب الجغرافي والعلاقات التاريخية الكولونيالية بين فرنسا وكل من المغرب والجزائر وتونس بشكل خاص. وبدأت أولى الأفواج تصل إلى فرنسا في بداية الخمسينات حتى قبل استقلال بلدان المغرب العربي للعمل في معامل الفحم الحجري، والفلاحة والبناء ... وكانت تقتصر على الرجال والشباب دون عائلاتهم، الذين كانوا يتركون قراهم وأهاليهم من اجل البحث عن فرص عمل وحياة أفضل والرجوع بعد ذلك إلى بلدانهم الأصلية. ثم تلتها هجرة عائلات بكاملها من اجل الاستقرار بشكل نهائي في فرنسا وكان ذالك بشكل قوي في بداية السبعينات حتى أواخر الثمانينات لان اقتصاد فرنسا كان في أوج قوته و تعرف هذه الفترة بحقبة "الثلاثون سنة المجيدة" وعملت الدولة على تسهيل إجراءات الهجرة لأنها كانت في أمس الحاجة لليد العاملة المغاربية . "" ولإيواء عشرات الآلاف من العائلات القادمة من بلدان المغرب العربي قامت الدولة ببناء عمارات ودور السكن في ضواحي المدن ، مما يعتبره ألان علماء الاجتماع بان تلك السياسة كانت حيفا كبيرا في حق هؤلاء الذين أتوا من اجل النهوض والمساهمة في اقتصاد فرنسا لكن تم عزلهم وتهميشهم في الضواحي لان الدولة لم تكن تريد إدماجهم في ذاك الوقت في النسيج الاجتماعي الفرنسي. وبدأت أولى نتائج هذه السياسات تلوح في الأفق في الثمانينات مع الجيل الأول من أصول مغاربية الذي نشا وترعرع في فرنسا لكن شعر بأنه غير مرغوب فيه وانه فرنسي من الدرجة الثانية. ثم تلى هذا الجيل الأول أجيال أخرى عانت ولازالت تعاني الأمرين من العنصرية والإقصاء ، وخير مثال على ذالك هو وصف نيكولا ساركوزي في 2005 وقتها كان وزيرا للداخلية، شبان الضواحي ب"الرعاع". هذا الإحساس بالاحتقار والمهانة والعنصرية اتجاه سكان الضواحي تفجر كفوهة بركان في أحداث 2005 حينما اندلعت شرارة مظاهرات عنيفة بين شبان الضواحي من أصول مغاربية وقوات الامن في ضواحي باريس لتعم أرجاء المدن الفرنسية. إضافة إلى ذلك فالمشهد السياسي الفرنسي شهد تراجعا كبيرا لليسار وصعودا لافتا لليمين المتطرف خلال العقدين الأخيرين بزعامة جون ماري لوبان المعادي للجالية العربية والإفريقية بشكل خاص. ولحد ألان وبعد خمس عقود من الوجود المغاربي في فرنسا لم ينجب بعد نخبة سياسية تمثله وتدافع عن حقوقه ، بل فقط بزوغ بعد الرموز لذر الرماد في العيون، كالوزيرة العدل الحالية رشيدة داتي من أصول مغربية، والتي ستغادر الوزارة خلال الشهور القادمة وذلك لفشلها في تمرير بعض الجذرية . بعد مرور أربع سنوات على هذه الأحداث، أردت أن ارصد عن كثب ما تغير على ارض الواقع وما حجم معاناة شباب الضواحي، فقمت بزيارة اكبر ضاحية في مدينة نانسي وهي على بعد بعض الكيلوميترات، والتي تعرف جالية عربية وافريقية كثيفة تأوي عشرات الآلاف من العائلات. ،و هذا الحي اسمه " هو دوليافر" وكانت إحدى عماراته إلى بداية التسعينات تعتبر العمارة "الأكبر في أوربا في اتجاه العرض" و يصل عرضها 400 متر ولا تزال موجودة إلى يومنا هذا. فالتقيت بمجموعة من الشبان في مركز "حركة الشبيبة " في الحي وتبادلت معهم أطراف الحديث وحكوا لي بعض ما يعانونه من إقصاء و تهميش ورغم ذلك تدب في كل واحد منهم حركة ونشاط كبيرين، وافتخار بأصولهم العربية والإسلامية. وحاول بعضهم جاهدين التكلم معي باللغة العربية . فمنهم من يرتدي قميصا رياضيا للمنتخب الجزائري لكرة القدم وأخر قميصه مكتوب عليه " أنا مسلم ، لا ترتعد"، وزمرة من الشباب فضلوا التدرب على "الدربوكة " او الدف المغربي عوض تعلم كل أنواع الرقص الغربي. "هسبريس" التقت الفاعل الجمعوي واحد المسؤلين على المركز الشاب عبد الله ، ذو 27 ربيعا والذي ترعرع في هذا الحي ويعرف جيدا هموم ومعاناة هؤلاء الشباب. أكثر من أربع سنوات مرت على اندلاع أحداث الشغب في الضواحي،هل استوعبت الدولة الدرس واستمعت لنداءات هؤلاء الشباب ؟ لا يمكنني الإجابة بشكل قطعي بنعم أم لا على هذا السؤال . بحكم تجربتي يمكنني القول بان الحكومة تسعى لفك العزلة والتهميش في هذه الإحياء عن طرق إعادة هيكلة المباني السكنية على وجه الخصوص. فكما ترون ان البلدية تقوم بترميم واجهة العمارات ، وقامت بإنشاء أماكن خضراء و دور للتسلية جديدة بعد عقود من التهميش واللامبالاة. إن حينا هذا عانى كثيرا ولا يزال من صورة سلبية ونمطية ، فالبعض يعتقد انه وكرا للمجرمين والمدمنين ....وهذا غير صحيح. ونسعى نحن كمربين ومنشطين توعية الشباب وحثهم على إكمال دراستهم والوقوف بجانبهم عند مواجهتهم لبعض المشاكل لكي يمكنهم وجول عالم الشغل ولكي يشجع هذا الدولة للاعتناء أكثر بهذه الأحياء عندما ترى بان هناك طاقات شابة تشق طريقها و تبني مستقبلها رغم كل الصعوبات. ما هي معاناة هؤلاء الشباب بالتحديد؟ المشكل ليس فقط يمس هيئة عمرية بذاتها بل يتعداها إلى أكثر من ذلك . فهذا الحي تم بناؤه في الستينات للمهاجرين القادمين خصوصا من المغرب العربي وتم عزل الحي عن المدينة وأصبح هناك نوعان من السكان سكان الضواحي و سكان المدن. فهذا " الميز الجغرافي" يضاف إليه الميز العنصري، يصعب اندماج هؤلاء الشباب في المجتمع الذي يحسون بأنه يرفضهم ،وهذا الإحساس يتولد عنه عنف وحقد على كل ما يرمز للدولة من مؤسسات و شرطة و بلدية...فيترجم هذا بأعمال عدائية لإثارة الانتباه . فإحداث 2005 كانت بمثابة نداء استغاثة ضد كل أنواع التمييز والإحساس بالمهانة. هؤلاء الشباب يعانون من نوع من الملل والضجر في حياتهم اليومية، حيث يمضون أيامهم شبه متسكعين متنقلين من عمارة إلى عمارة إذ لا يجدون عملا،فاغلبهم ينقطع عن الدراسة بشكل مبكر وهذا عائق لولوج عالم الشغل. يعانون أيضا من تهميش الدولة لهم، حيث لا يوجد هناك مراكز للتأهيل بشكل كاف في هذه الأحياء. ويجب إن لا ننسى بان شابا اسمه "رشيد" و يقطن الحي مع شاب أخر اسمه "فرونسوا" ولهما نفس المؤهلات او حتى إن كان رشيد أكثر تأهيلا’ فسيتم تفضيل "فرونسوا" على "رشيد" رغم ذالك وهذا ما يعرف ب" جنحة الهيئة". لا توجد هناك عدالة اجتماعية، ان العنصرية واقع معاش وبشكل يومي ، وهذه معضلة كبرى. لهذا يعمد هؤلاء الشباب إلى الانطواء على بعضهم وهذا شيء خطير لأنهم يصبحون في مواجهة مع المجتمع وينظرون له بعدائية. و في المقابل يحاولون كسب قوتهم اليومي أو حتى الغنى بطرق ملتوية و محظورة كالاتجار في المخدرات ، و السرقة و العنف لهذا نجد الكثير من هؤلاء الشبان يقبعون وراء القضبان . لماذا لم تستطع كل هذه الأجيال منذ خمس عقود الانصهار والاندماج في المجتمع الفرنسي كما هو الحال بالنسبة للمهاجرين من أصول ايطالية و برتغالية واسبانية على الخصوص.؟ ملاحظة جيدة. صحيح بان هؤلاء المهاجرين من أصول أوروبية انصهروا بشكل كلي في المجتمع الفرنسي، أولا لأنهم أوربيون شكلا و عقيدة. فهم أعطوا لأبنائهم أسماء فرنسية واغلبهم إما مسيحيون أو يهود. إضافة إلى ذالك فالأجيال من أصول أوربية التي نشأت في فرنسا اغلبها لا تربطها أي صلة ببلدان آبائهم .أي هناك ذوبان لهويتين الأصلية في الهوية الفرنسية. أما المهاجرون من أصول مغاربية فيحتفظون بهويتهم العربية الإسلامية. و حتى الشباب رغم إنهم لا يعرفون الكثير عن تاريخ و ثقافة وهوية آبائهم فهم يتشبثون بهويتهم و يعتزون بها وهذا ما يتسبب في تصادم بين هويتين مختلفتين يصعب التزاوج بينهما. فاغلب هؤلاء الشباب رغم كونهم ترعرعوا في فرنسا وذهبوا إلى المدارس الفرنسية ويحملون الجنسية الفرنسية، لكن لا يحسون بأنهم فرنسيين . وكي أصدقك القول فانا أيضا ما أحسست يوما بأنني فرنسي بل مغربي حتى النخاع. ما هي الأنشطة التي تقومون بها في هذا المركز؟ نسعى إلى تنويع الأنشطة الثقافية والرياضية لكل من المراهقين والشباب. فهناك عدة ورشات الكتابة، القراءة، الرسم ، المسرح، النحت... وعدة أنواع من الرقص الغربي بوب ،هيب هوب ...، و الغناء، و لدينا قاعة لتعليم الرقص الشرقي للفتيات. ننظم أيضا رحلات داخل وخارج فرنسا، حيث نظمنا رحلات لعدة دول كالولايات المتحدة، واسبانيا، والبرتغال و ايطاليا إضافة للمغرب وتونس.. وقمنا أخيرا بفتح "قاعة شرقية مغربية" لكي يحس هؤلاء الشباب بنوع من الحميمية وكأنهم في منازلهم وهم يدردشون او يحتسون الشاي ويتبادلون أطراف الحديث في ما بينهم. كيف ترى مستقبل الأجيال الصاعدة لهذه الأحياء خلال السنين القادمة ؟ أنا جد متفائل على هذا النحو. فخلال السنين الأخيرة أصبح هناك وعي من طرف الدولة بالسعي لرد الاعتبار لسكان الضواحي، و إعانة الشباب من أصول مهاجرة ولوج اكبر وارقي الجامعات و المعاهد. فالرئيس ساركوزي قد عين رجل الأعمال من أصول جزائرية يزيد صادق منذ شهور قليلة ، كمندوب سام من اجل تشجيع ما يعرف ب "التنوع"، أملا في رؤية نخبة من أصول عربية وغيرها من الأقليات تتربع ارقي المناصب السياسية على وجه الخصوص. ويوجد هناك أيضا صحوة لأولياء الأمور من اجل تعليم أبنائهم وتربيتهم أحسن تربية وهذا ما كان ينقصنا نحن في طفولتنا، لان إباءنا كانوا اغلبهم أميون، ولم نكن نلق التشجيع الكافي لإكمال دراستنا. حلمي أن أرى يوما ما " اوباما " عربي رئيسا لفرنسا، وهنا الأمل كل الأمل معقود على الأجيال الصاعدة إنشاء الله.