ظاهرة العنف الجسدي في المؤسسات التعليمية وما تثيره من جدل واسع في الأوساط التعليمية، وخطة ساركوزي بشأن احتواء مظاهر التهميش التي تشهدها الضواحي الباريسية، وكذا موقف الجالية المسلمة من «التنوع» الذي يريد الرئيس الفرنسي إدراجه في ديباجة الدستور، ومقاضاته في سابقة تاريخية لصحيفة فرنسية حشرت أنفها قي حياته الشخصية، كلها مواضيع وغيرها نعرض لها في الرسالة الباريسية لهذا الأسبوع. العنف الجسدي ظاهرة العنف الجسدي في المؤسسات التعليمية طفت من جديد على السطح، بعد أن اهتزت الأوساط التعليمية هذا الأسبوع على خبر اعتقال جوزي لبورور، أستاذ بثانوية بيرلمون شمال فرنسا الذي صفع أحد تلامذته بعد أن نعته هذا الأخير بالأبله. وفيما أبدت معظم الفعاليات التربوية من مؤسسات وأكاديميات ونقابات تعليمية، مدعومة بالوزير الأول ووزير التعليم، تضامنها مع المدرس وتأييدها لبعض العقوبات الجسدية الخفيفة «التقويمية»، ارتفعت بعض الأصوات، وخاصة في أوساط جمعيات الآباء، منددة بالسلوك المشين ل»الجاني» الذي يعود بفرنسا إلى العهود الوسطى. وقد باشرت العدالة تحقيقا في الموضوع تنذر مؤشراته الأولى باحتمال أن يتعرض الأستاذ لعقوبة حبسية نافذة تتراوح ما بين ثلاثة وستة أشهر. ويمنع قانون 1886، الخاص بالعقاب الجسدي في المدارس، أي عقاب جسدي للتلميذ،، حيث نص بصريح العبارة على أن «العقاب الوحيد الذي يمكن أن يستخدمه المدرس هو إعطاء درجات سيئة، أو الحرمان الجزئي من الفسحة، أو الاستبعاد مؤقتا من الحصص، أو اللوم والتوبيخ». ولم تذكر التعديلات الواردة في قانون 1890 المعمول به حاليا، العقاب الجسدي في قائمة العقاب المسموح به. فالعقاب، بموجب هذا القانون، يجب أن تكون له دائما صفة معنوية ويكون هدفه إصلاحياً مثل الحرمان من الفسحة، أو التكليف بعمل أو القدوم يوم الأحد إلى المؤسسة لأداء واجب محدد... ورغم حرص القانون ورحمته بالتلاميذ أكثر من المدرسين، فإن المحاكم تقف في بعض الحالات مع المدرس إذا تبين لها أن الضرب لم يؤثر بأي شكل من الأشكال على صحة الطفل، مثلما حكمت محكمة ديجون في شهر مارس من السنة الماضية لصالح مدرس صفع تلميذه، وذلك لأن صفعته كان مبررها الحق في التقويم الذي يملكه المعلم على تلاميذه بسبب عمله. فالمدرس، من وجهة نظر المحكمة، له سلطة تأديبية مبررها المسؤوليات التربوية التي يتحملها في ظروف غير مواتية أحيانا. دراسة ميدانية وحتى في غياب نصوص قانونية تتيح بعض العقوبات الجسدية الخفيفة، مثل شد الأذن والصفعات غير المؤذية والضرب على المؤخرة، كما هو الحال في بعض البلدان الأوربية وفي مقدمتها بريطانيا، فإن هذه الأساليب يرى فيها القائمون على الشأن التعليمي، ومعهم شريحة واسعة من الفرنسيين، وسائل طبيعية للحفاظ على النظام داخل الفصل، شريطة ألا تكون ذريعة تجعل بعض المدرسين يقومون بالعقاب بصورة متعمدة أو بحركة تلقائية مفاجئة. وتؤكد دراسة ميدانية أنجزها مؤخرا فريق من علماء التربية بشأن العنف المدرسي، أن تلميذا من اثنين قد تعرض أو على الأقل شهد عملا عنيفا من المدرسين أثناء الدراسة، وأن 50% من الأطفال في الحضانة تلقوا صفعات أو ضربات على الأرداف، ونسبتهم في الأول الإعدادي كانت 95%، و24% في الثانية إعدادي، غير أن هذا العدد لا يمثل سوى ثلاثة في المائة في الثانويات في ظل حساسية الشباب واحتمال المعاملة بالمثل أو اللجوء إلى العدالة لأخذ حقوقهم. ورغم أن القوانين تحظر بشكل صريح العنف الجسدي، فإن الوضع يفرض واقعا مغايرا، حيث أفادت الدراسة بأن 95% من المعلمين أبدوا رغبتهم في اللجوء إلى العقاب ضد الأطفال العنيدين، بل لجأ 74% منهم فعلاً إلى العقاب الجسدي. ولتبرير هذا العمل، أكد بعض المدرسين أن لا حل لديهم أمام تمرد التلاميذ وعنادهم سوى بعض الصفعات غير المؤذية، مختفين بذلك وراء الآباء الذين يقومون أنفسهم بذلك. ومع استفحال الظاهرة، تنامى نوع جديد من العنف في المدارس، وهو العنف الشفهي باستخدام ألفاظ وكلمات نابية تترك آثارا ضخمة في نفوس المدرسين. ولا تخفي بعض النقابات التعليمية تأييدها لبعض ما ورد في خطاب ساركوزي خلال الدخول المدرسي، وخاصة الشطر المتعلق بوجوب استعادة المدرسة لهيبتها مع ما يستدعي ذلك من تكريس وترسيخ لقيم التوقير والاحترام تجاه المدرسين، وفي مقدمتها كما قال حرفيا: «وقوف التلاميذ عندما يدخل الأستاذ». ويلخص ساركوزي هذا التوجه في معاناة عدد كبير من المدرسين الذين يوضعون أحيانا في أسوأ درجات المهانة، من خلال المشاغبة والتمرد المتعمد الذي يعرقل أداءهم، في غياب الوازع الأخلاقي أو التدخل الإداري الرادع لمساعدتهم. ونستحضر نحن تلامذة الستينيات عصا المعلم المصنوعة من الخيزران، وتسابقنا لكسب وده والانصياع إلى أوامره، بعد أن يرسخ فينا ثقافة الاستماع التي ساعدتنا في أعمارنا الأولى على تنمية قدراتنا في تخيل الأحداث، والتقاط أوجه الاختلاف في الآراء، وهي ثقافة في طريق الانقراض مع تواري قيم التوقير والاحترام، ومعها نزوح المعلم إلى إنهاء الحصة (بخير وعلى خير) في ظل التمرد والمشاغبة السائدة في الأوساط المدرسية، ناهيك عن اعتراض سبيله إن جانب الصواب مع التلامذة أو سجل نقطة أو ملاحظة سيئة في دفتر التلميذ. ألم ينصح أحد الظرفاء ابنه بعد تراجع مستواه بقوله على نسج أحمد شوقي: قم للمعلم يا بني عجولا / واضربه حتى يرتمي مقتولا. خطة الأمل من عنف المدارس إلى عنف الضواحي، حيث عرض الرئيس نيكولا ساركوزي أول أمس الخطوط العريضة لخطة الضواحي الباريسية التي تشمل نشر أربعة آلاف شرطي إضافيين في الأحياء الحساسة، في موازاة رصد 500 مليون يورو لتطوير وسائل النقل وإعادة تنظيم قطاع النقل في مناطق تشهد اضطرابات من حين إلى آخر. ووازن ساركوزي في «خطة الأمل» كما سماها، وهي من إعداد وزيرة المدينة الجزائرية الأصل فضيلة اعمارة، بين «الحرب على المخدرات والمافيا، التي ستكون بلا هوادة ولا رأفة»، والوعود بالتقاط الفاشلين دراسياً، وإعادتهم إلى حظيرة التعليم «في مدارس تعيد تأهيل من دخلوا نفق اليأس، ولن نقبل بعد اليوم أن يذهبوا إلى مدارس نعرف مسبقاً أنها تقود إلى الفشل». الحياة في الضاحية، ستغدو زاهرة مع خطة فضيلة ونيكولا، وستوقع الشركات الفرنسية آلاف عقود الاستخدام، مع النخبة التي ستتخرج من المدارس، وستقوم البلديات بتكوينهم، ومراكز مكافحة البطالة بالبحث عن وظائف تمنحهم أفضلية فيها. هكذا نفهم من خطاب ساركوزي، الذي حاول ملامسة صلب مشكلة المهاجرين المتمثلة في تذمرهم مما يعتبرونه «تفرقة عنصرية» بسبب أصولهم: «أريد أن أقول لهؤلاء الفتية، الذين يعتقدون أن جزءا من المجتمع الفرنسي يكرههم، أن أحداً لن يحكم عليهم مسبقاً بسبب لون بشرتهم أو عنوان مسكنهم.» وأضاف أمام حوالي ألف من الفاعلين المحليين المجتمعين في قصر الإليزيه: «سنعيد ابتكار المدينة»، متحدثا عن «رهان حضاري» ومتعهدا باستحداث عقد محدد ل»مواكبة» أكثر من مائة ألف شاب ل»الوظيفة» خلال ثلاثة أعوام. الجالية المسلمة في حديثه عن التفاوتات الاجتماعية التي سلم بوجودها بين أحياء تقطنها غالبية من المهاجرين المغاربيين والأفارقة، وأحياء محسوبة على البشرة الفرنسية، أصر الرئيس ساركوزي، دون أن يطلب أحد منه ذلك، على التمسك بمواقفه وأقواله السابقة، «ما قلته أتحمله»، في إشارة منه إلى كلمة «الرعاع» التي قالها تحت قبعة وزير الداخلية، في حق أبناء الضواحي في انتفاضة 2005، وإلى كلمة «الصعاليك» التي أطلقها تحت معطف الرئاسة، في أحداث الشغب في نونبر 2007، غير أنه وعد هذه المرة بالدفاع عن «التنوع» من خلال التنصيص عليه في ديباجة الدستور الفرنسي. والجالية المغاربية، إذ تبارك هذا التنوع الذي يغني الإرث السياسي الفرنسي، كما عبرت عن ذلك عدد من الجمعيات الثقافية والإسلامية بفرنسا، فإنها تأمل من الرئيس الفرنسي تعزيز ذلك بالتخلي عن بعض مظاهر الخطاب الإسلاموفوبي، لأنها تستحضر دائما ما قاله علانية وفي لقاء تلفزيوني قبل سنة في برنامج «عندي سؤال أطرحه»: «إذا كنا نعيش في بلاد فعلينا أن نحترم قوانينها ولا نقهر الفتيات ولا نذبح الخرفان في الشقق (في إشارة إلى عيد الأضحى)، ولا يمكننا أن نقبل بتعدد الأزواج (في إشارة إلى سماح الشريعة الإسلامية بتعدد الزوجات)». وكان رد فتاة فرنسية مسلمة قامت من مقعدها: «أنا أعيش في فرنسا وولدت هنا، ويمكنني أن أؤكد أن 90% من المسلمين لا يقومون بالتصرفات التي ادعيتها، وإنني أشعر بأنني أهنت لأنك بهذا الكلام تصور المسلمين وكأنهم برابرة». وتصر الجالية المسلمة على أن التنوع والاختلاف يعنيان العدول عن استعمال بعض الأكليشيهات الإسلاموفوبية الرائجة ضد المسلمين، وخاصة استدراج مثال الخرفان، كما تفعل ذلك بامتياز السينمائية العنصرية، بريجيت باردو، تخت غطاء الدفاع عن حقوق الحيوان. ساركوزي يقاضي «لونوفيل أبسرفاتور» تأتي خطة ساركوزي بشأن الضواحي وما رافقها من ردود فعل متباينة، وسط توقعات اقتصادية مثيرة للقلق، تفيد بأن العجز التجاري سيسجل رقما قياسيا يتراوح بين 35 إلى 40 مليار يورو، ذلك أنه بالرغم من الزيادة في الصادرات، لا يمكن للرصيد الصناعي الفرنسي أن يعوض تكاليف الطاقة التي تفوق الجزء الأكبر من العجز التجاري. ويرجع خبراء الاقتصاد العجز المتنامي في التجارة الفرنسية إلى كون المنتوجات الفرنسية لا تباع بما فيه الكفاية في العالم، وأيضا إلى افتقار فرنسا إلى الشركات المتوسطة (1600 شركة) مقارنة بألمانيا التي تعمل بها أربعة آلاف شركة متوسطة. وتأتي خطة ساركوزي أيضا وسط ذهول وسائل الإعلام بمختلف مشاربها من إعلانه رفع دعوى ضد موقع مجلة «لونوفيل أوبسيرفاتور»، الذي كشف النقاب عن رسالة هاتفية قد يكون بعث بها الرئيس الفرنسي لطليقته سيسيليا، قبل أسبوع من زواجه من كارلا بروني، يقول فيها: «سألغي كل شيء إذا قررت العودة». وإذا كان الصحفي يدرك جيدا أن الخبر الذي يظهر ساركوزي وكأنه أسير عشقه لسيسيليا، سيخلف ضجة إعلامية واسعة، فإنه لم يتوقع بكل تأكيد أن الرئيس ساركوزي سيقاضيه بتهمة «الكذب واستعمال الكذب»، وهي سابقة في تاريخ الجمهورية الخامسة، حيث لم يثبت أن قاضى رئيس فرنسي جهازا إعلاميا أثناء مزاولة مهامه الرئاسية. وينظر الصحفيون باندهاش إلى دعوى ساركوزي الذي لا يدحض وجود الرسالة الهاتفية ولكن يريد التحقق من مصدرها الحقيقي ومن يقف وراءها. وقد أوضح محامي الرئيس، تييري هرزوغ، أن نشر خبر عار من الصحة يمس الحياة الخاصة لساركوزي ولا علاقة له بنشاطه السياسي، هي تهمة يعاقب عليها القانون بالسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات وغرامة قدرها 45 ألف يورو. وتأتي هذه الدعوى بعد أخرى مستعجلة كسبها قبل أسبوع ضد شركة طيران إيرلندية استخدمت صورة له مع كارلا بروني في إعلان تجاري لرحلاتها. وحصل ساركوزي على مبلغ يورو واحد كان قد طلبه كتعويض عن الضرر. أما كارلا بروني فقد طلبت نصف مليون يورو، لكن القاضي حكم لها بتعويض قدره 60 ألف يورو، أعلنت أنها ستتبرع به لمؤسسة «مطاعم القلب» الخيرية التي كان الكوميدي الراحل كولوش قد أسسها قبل 20 عاماً لتقديم وجبات الطعام للفقراء والمشردين. والملفت في هذه الواقعة هو أن الرئيس الفرنسي يقيم علاقة غريبة مع وسائل الإعلام، فهو، من جهة، يتعمد كشف تفاصيل حياته الخاصة أمام المصورين، ويتوعد، من جهة أخرى، الصحف التي تنشر ما لا يروق له من أخبار تتعلق به أو بأفراد أسرته.