الديمقراطية كل لا يتجزأ، إما أن تكون أو لا تكون، هذا الكل هو الذي يعتمد عليه لحماية الحقوق التي تتيح التنمية الشخصية للأفراد وتتيح قرارات جماعية، فالديمقراطية بهذا المعنى تسمح بتجديد قوى المجتمع، ولا يتم تفعيل قيم الديمقراطية إلا من خلال تدعيم فلسفة القانون، أي حكم القانون والمساءلة السياسية من خلال ممثلي الشعب، إذ إن سيادة القانون تجسد انضباط الجميع وعمله في إطار القانون والدستور وفق ما هو محدد قانونيا. وبهذا المفهوم، تكون الديمقراطية أكثر من مجموعة قواعد وإجراءات دستورية تحدد كيفية عمل الحكومة، بل إن الدولة الديمقراطية يقع على عاتقها عبء ضمان التعامل مع جميع مكونات المجتمع بالتساوي، وهو ما عبر عنه أحد الخبراء الدستوريين بقوله: «ينبغي على الدولة، مهما كانت الظروف، ألا تفرض أي مزيد من اختلال المساواة، بل يجب أن يكون لزاما عليها أن تتعامل بشكل منصف ومتساو مع جميع مواطنيها». ولعل مغزى هذه القولة يتجسد من خلال رصدنا ومواكبتنا للتحولات الديمقراطية بالمغرب من خلال ما جاء في إحدى الخطب الملكية: «إن المجتمع المغربي، الذي نعمل على تحقيقه في الألفية الثالثة، هو المجتمع المتماسك اجتماعيا، وإن إرادتنا قد انعقدت على هذا التوجه فيتعين على كل المؤسسات المعنية تحقيق هذه الإرادة». ومن هذا المنطلق المعتمد كمنهج، نتساءل بقوة: هل، فعلا، المؤسسات المعنية تنفذ هذه الإرادة الملكية؟ وهل تتوفر على نظام من الضوابط والتوازنات لضمان أن تكون السلطة والثروة موزعة وغير محصورة بعيدا عن إمكانيات التعسف وإساءة استخدام السلطة؟ ولعل المتتبع لمجريات الأحداث بالمغرب سيقف، بكل تأكيد، عند حديثين مستجدين بارزين: الأول وطني ويهم الاختراق الاستخباراتي الجزائري لأقاليمنا الجنوبية، والذي تمخضت عنه أحداث العيون بالشكل الذي اختتمت به، وهو ما كنا حذرنا منه على صفحات جريدة «المساء» خلال شهر شتنبر الماضي (سنعود إليه بتفصيل). والثاني (الهام) مرتبط بإعادة إنتاج مفهوم الطبقية الاجتماعية بالمغرب على شاكلة أثينا القديمة، ويتمثل في تنظيم ابن وزير الخارجية إبراهيم الفاسي الفهري - من خلال معهد أماديوس، الظاهرة للدورة الثالثة - لمنتدى «ميدايز» في مدينة طنجة. نشاط ابن وزير الخارجية تعبأت له كل موارد الدولة، انطلاقا من البشرية إلى المالية واللوجستيكية، من خلال مساهمة المؤسسات العامة للدولة في تمويل هذا المنتدى والذي، بالمناسبة، ليست هذه المرة الأولى التي تجند فيها من أجله كل الطاقات. وهنا يأتي حق المواطن في التساؤل عن الحكامة الجيدة، قوام ديمقراطية، وعمادها المساءلة بعد التقييم، لأن الشيء الأكيد هو أن تلك المخصصات المالية الممنوحة لإبراهيم الفاسي الفهري ومن معه هي من أموال دافعي الضرائب، كما يسميها الأمريكيون. وأنا أستحيي أن أفتح قوسا للحديث عن مسألة دفع الضرائب بالولاياتالمتحدةالأمريكية وما تشكله في ثقافة المجتمع الأمريكي، لأن ذلك قد يصيب البعض بالذهول والاستغراب، وقد يصيب البعض المتبقي -وهو قلة قليلة تسترزق على حساب المواطنين- بالرغبة في سد الأفواه وهندسة ديمقراطية على المقاس. وأنا أتحدث إلى صديق عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي عن إحدى الولاياتالأمريكية الجميلة، طبيعيا وتدبيريا، سألته كم يتقاضى كأجر وتعويض عن عمله، فأجاب، مائة وخمسة عشر دولارا (1000 درهم مغربي)، فكان ردي أن المبلغ زهيد جدا في الشهر لأنه قد لا يكفي لسد مجموعة من الاحتياجات والمتطلبات، علما بأن الديمقراطية الأمريكية تقوم على التواصل المستمر مع الناخبين، فابتسم قائلا إنه أجر سنة مخصومة منه نسبة الضرائب المحددة قانونيا. وهذا مثال بسيط على ما يعنيه جني الأموال من المواطنين وترشيد تدبيرها خدمة لمصالحهم وأهداف بلدهم العليا. غير أن المثير في قضية تمويل منتدى «ميدايز» لابن وزير الخارجية هو انخراط الجميع (المؤسسات العمومية)، صفا متراصا، لضخ أموال بحساب معهد «أماديوس»، وهو ما يجعلنا نتساءل عن دور المجلس الأعلى للحسابات ودور البرلمان (ممثل الشعب) في ما يخص الأموال المدفوعة خلال الدورتين السابقتين والأهداف المحققة والمرجوة منها؟ والأجندة التي يخدمها؟ أم إن استعمال رئيس المعهد عبارة: «المنتدى يحظى بالشرعية الملكية» قد أوهم جميع المؤسسات المكلفة بالرقابة بأن تدقيقها إنما يكون اعتراضا على إرادة الملك. معهد «أماديوس» أنشئ سنة 2008، من طرف ابن وزير الخارجية، وأصبحت له كل هذه الشهرة والمكانة والإمكانيات المادية لتنظيم مؤتمرات دولية في الداخل والخارج، في الوقت الذي تشتغل فيه العديد من مراكز التفكير بالمغرب بروح وطنية خالصة وصادقة وليست لها نفس الحظوة،علما بأن جوهر العمل الديمقراطي هو المشاركة النشطة الحرة من قبل المواطنين في الحياة العامة لمجتمعهم ولبلدهم، لأن إغلاق منافذ الحركة والحد من هذه المشاركة المبنية على التساوي يسرع وتيرة انهيار النظام الديمقراطي وتحول المشهد إلى مسرحية تتحكم في أدوارها فئة قليلة من الجماعات. ولا نجد ما نختم به هذا المقال خيرا من قول أحد الفلاسفة: «إن نزعة الإنسان إلى الظلم تجعل الديمقراطية أمرا ضروريا».