هذه الحلقات هي سفر في تضاريس حياة الملك خوان كارلوس دبريون الذي كتب اسمه بمداد من ذهب في سجل الانتقال الديمقراطي بإسبانيا، فلم يكن شخصية معادية لنظام الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو، بل خرج من رحم نظامه بعدما التقطه الجنرال ولقنه دروس السياسة وجعله يعيش بين ذئاب النظام ويرضع من حليبهم حتى يشتد عوده، وعندما مات الرجل القوي الذي لم تعرف إسبانيا غيره منذ نهاية الحرب الأهلية، وجد خوان كارلوس نفسه يمسك بمقود السفينة في عين الإعصار، قد أبان عن قوة داخلية وهو يلعب دور المروض لحديقة من سباع الجيش و النخبة السياسية التي كانت محيطة بالديكتاتور، لأجل كل ذلك تظل حياة خوان كارلوس فصلا مهما في درس الانتقال الديموقراطي الاسباني. بدأ الاعتقاد يترسخ لدى البونكر المحافظ أن أدلفو سواريث بصدد إلقاء جميع المكتسبات التي تحققت بعد الحرب الأهلية من النافذة، وطفق يتحرك ضمن حملة معادية ضد المشروع الإصلاحي عموما، وكان ضمن استراتيجية اليمين في تلك الفترة خلق أجواء من التوتر، مثلما قامت مجموعة من اليمينيين المتشددين باغتيال خمسة أشخاص بينهم أربعة محاميين في مجال الشغل ينتمون إلى الحزب الشيوعي في مكتب بشارع أتوتشا بمدريد، ورفض الحزب الشيوعي الرد على هذا الاستفزاز، ودعا في بيان له إلى الصرامة. وفي تلك الأيام اعترى سواريث غضب شديد مما حصل، لكنه رفض أن يمنح عائلات المتوفين الترخيص بإقامة طقوس جنازة عامة حتى يظل متحكما في الأوضاع، ولم يسمح بإقامة الجنازة إلا بعد طول تردد، وهو ما سيتحول لاحقا إلى حدث محوري في مسلسل الانتقال الديموقراطي بعدما سار المناضلون والمتعاطفون مع الحزب الشيوعي معا في مسيرة صامتة و حاشدة للتعبير عن تضامنهم مع الضحايا وعائلاتهم، وبقي خوان كارلوس و سواريث مشدوهين لما يقع بعدما كانا يراقبان المشهد من فوق طائرة هيلوكوبتر، والتقى سواريث بمجموعة من ممثلي المعارضة الذين وعدهم بالعمل ضد العنف الذي يمارسه البونكر مقابل تلقي وعد منهم بالعمل لمناهضة الإرهاب ودعم الحكومة، وكان هذا إنجازا مهما بالنسبة إلى سواريث، لأنه كان يعني اعترافا من طرف المعارضة اليسارية أن رئيس الحكومة هو جزء من القوى الديموقراطية بإسبانيا. والواقع أن سواريث لم يكن يريد الانسحاب بمجرد الوصول إلى محطة الانتخابات التي ظل يحضر لها عبر عدة قوانين جديدة منذ شهور، بل كان يمتلك رؤية تتجاوز ذلك، فقد اقتنع عبر استطلاعات الرأي التي أنجزت بأن حزبا وسطيا غير مرتبط كثيرا بالفرنكاوية ومدعوما بوسائل الإعلام يمكن أن تكون له حظوظ كبيرة في الانتخابات، لذلك فإن عددا من الفرانكاويين السابقين المتميزين بانفتاحهم انتقلوا في خريف عام 1976 إلى التحضير من أجل دخول الحياة السياسية في ظل نظام ديموقراطي، بعدما فهموا الرسالة. وكان أول من بدأ التحرك في هذا الإطار هو مانويل فراغا الذي كان مقتنعا بأن أربعة عقود من الديكتاتورية أنتجت أيضا قطاعات واسعة من اليمينيين الإسبان، والذي سيشكل بمعية عدد من الشخصيات ما عرف بالتحالف الشعبي، وهو ما رسخ قناعة لدى سواريث بالتموقع في الوسط الذي يعد مكانه الأساسي بعد إجراء إصلاحات في النظام السياسي، بيد أن الملك خوان كارلوس كان يعارض في البداية فكرة تشكيل سواريث لحزب خاص به، لكن الملك غير فكرته وأعطى الضوء الأخضر لسواريث بأن يترأس حزب اتحاد الوسط الديموقراطي الذي تشكل من خمس مجموعات سياسية، أهمها التيار الذي تعبر عنه تشكيلة الديموقراطيين المسيحيين المحافظين، وتلا ذلك الشروع في تطبيق مشروع الترخيص بإنشاء أحزاب سياسية في البلاد. ومنح مسلسل التحضير لانتخابات في منتصف يونيو1977 مظلة الشرعية لخوان كارلوس، وتمكن من أن يخطو خطوة أخرى إلى الأمام بعد تعيينه من طرف فرانكو خليفة له وأدائه القسم بالحفاظ على مبادئ الديكتاتورية، وكان ذلك أول محطة في سبيل تحوله إلى ملك في ظل نظام ديموقراطي تظل سلطه محددة وفقا لبنود الدستور. والواقع أن الانتخابات شكلت منعطفا مركزيا في حياة خوان كارلوس منذ أن وطأت قدماه إسبانيا عام 1948، وكانت الفترة الفاصلة بين التاريخين حافلة بالتضحيات والعمل الجاد، وبعد خروج الحزب الذي يرأسه سواريث منتصرا في هذه الانتخابات أعاد الملك تأكيده في منصب رئيس الوزراء، وكلفه بتشكيل حكومة جديدة تتمتع بصلاحيات على حساب صلاحيات الملك الموروثة عن فرانكو، في الوقت الذي شرع فيه الكورتيس، البرلمان، المنتخب لأول مرة بطريقة ديموقراطية في العمل من أجل وضع دستور للبلاد، وهو العمل الذي كان يتطلب مجهودا خاصا من خوان كارلوس أيضا. وبانتخابه بطريقة ديموقراطية بدأ سواريث يعمل بحرية أكبر، ويتخذ القرارات التي يراها صائبة دون اللجوء إلى استشارة قصر ثارثويلا، وكان هدفه في ذلك هو أن ينأى بالملكية عن أمور التسيير اليومية، في الوقت الذي كان يدرك فيه تماما أن هناك بعض المسائل التي يستحيل حلها دون اللجوء إلى الملك، ورغم الخطر الذي مازال يتهدد التجربة من طرف الجيش والمحافظين وإرهاب تنظيم إيتا بيد أن عددا من الإسبان كانوا مقتنعين بأن تصويتهم في الانتخابات كان إعلانا عن ميلاد إسبانيا جديدة.