ترى لماذا ربط المغاربة منذ عقود سلوكاتهم وعقليتهم بمادة الكامون؟ لماذا اعتبروا أنفسهم وذويهم كامونيين؟ «كيتحكوا عاد كيعطيوا الريحة».. معذرة على هذا السؤال المستفز، لكنه ملح وضروري في مرحلة مهمة من تاريخ المغاربة، حيث يغزوهم التطور التكنولوجي لكن تظل نبتة الكامون تلاحقهم كلعنة متوارثة. فإن تأملنا وحللنا واستوعبنا سلوكات المغاربة وردود أفعالهم، أغناهم وأفقرهم، أقواهم وأضعفهم، أكثرهم أمية وأقلهم ثقافة، نجد أنهم لا يقومون بواجباتهم إلا مضطرين، ولا يحترمون القانون إلا خاضعين، ولا يجيدون ما يعملونه إلا مراقَبين، ولا يطيعون إلا خائفين، ولا يتواضعون إلا محتاجين. لا بد لهم من آمر ناه يلاحقهم ويراقبهم، وربما يؤنبهم ويصرخ في وجوههم، كي يشتغلوا ويحسنوا ويحترموا، ليس لدينا ذاك المراقب الداخلي الذي يوجهنا ويضبط سلوكاتنا دون حاجة إلى من يجبرنا ويذلنا ويقودنا كالبعير. منذ كنت طفلة وأنا أنبهر بالتغيرات الجغرافية والبيئية والجمالية التي «تصيب» المدن عند زيارة ملك البلاد لها، كنت أضحك من الشجر الذي ينبت فجأة، وكانت النخلات وارفة الظلال تفاجئني في أماكن لم تعرف سوى الذباب وحاويات القمامة، وكنت أحاول أن أربط في ذهني الفتي بين زيارة الملك وتلك الخطوط البيضاء الجميلة التي تزين الطرقات وتختفي بمرور عابر للملك.. الآن وقد كبرت، وظلت العادة نفسها كأنها تقليد يميز المغاربة عن غيرهم، صرت أفهم أن لهذا السلوك علاقة بنبتة الكامون، فهؤلاء المغاربة «الكامونيين» لا يزينون الطرقات فرحا باستقبال الملك، بل ليخفوا فضائحهم واختلاساتهم ونهبهم الدامي لخيرات هذا الوطن، وإذا كان المنتخبون والولاة في الدول التي لا علاقة لها بالكامون، يعيشون خوفا يوميا من المواطنين الذين لهم حق محاسبتهم، فنحن لا أحد يخافنا ولا يخافون الأقوى والأغنى عز جلاله، يخافون فقط أن تنتزع منهم تلك المقاعد الدافئة المريحة التي تدغدغ غرورهم. وبمجرد أن بدأت سياسة «حك المسؤولين» كما الكامون، بدأت رائحة الملفات والتنقيلات والمحاسبات والإقالات، وبدأت الأجساد ترتعد خوفا وانتفضت مذعورة من فوق كراسيها المريحة. ساحة أخرى وفضاء مشترك لكل المغاربة يبين أيضا ما للكامون من تأثير على المغاربة، وهي الطرقات والسياقة. وأعتقد أننا لو ثبتنا كاميرات مراقبة السرعة في كل مكان منذ عقود وطالبنا المخالفين بدفع الغرامات، لما احتجنا كل هاته السنين لمدونة سير، ولو وضعنا إعلانا تلفزيا وحيدا يشرح القيمة المادية لكل مخالفة لأصبحت طرقاتنا رمزا للانضباط والاحترام والتسامح والاستقامة. الإحساس بالمسؤولية واحترام الذات والآخر والكرامة الشخصية صفات تكتسب من خلال التربية على المواطنة وحقوق الإنسان وحب البلد وخدمته، وحينما تنعدم في المرء كل هاته المقومات الأساسية ليكون مواطنا، فإنه يصبح «كاموني»، أي أنه لا يقوم بواجبه إلا تحت الضغط، وهذا هو واقع معظم المغاربة وفي أبسط سلوكاتهم اليومية، لذلك أقترح غرامات وكاميرات في كل مكان.. وأقترح حملة اسمها «كاميرا لكل مواطن ومسؤول»، ولجنة وطنية تتابع يوميا ما تخبئه الكاميرات وتبعث بالغرامات.. مواطنون يرمون الأزبال في كل مكان، يعبرون الشارع في أي زمان، مقاه تحتل الملك العام، علم البلاد يرفرف ممزقا فوق بعض الإدارات، برلمانيون غائبون وآخرون نائمون، أرباب عمل يستغلون العمال ويتحرشون بالعاملات، ملصقات سخيفة في الشوارع، مسلسلات غريبة في التلفزيون.. يلزمنا دائما مراقب رغم أننا خلقنا ولكل منا كاميراه معه، تؤنبه وتوجهه وتجعله يقوم بكل واجباته ويطالب بحقوقه ويخدم وطنه.. فلو فكرنا في الخالق لما احتجنا إلى من يذلنا كي نحسن من سلوكاتنا وأعمالنا، فمن يخاف الله لا يخاف العباد، ومن لا يخاف الله ما من شيء يقف أمام غروره.