يتحدد مفهوم الحرب على الحرب بين الدول، أي الحرب العمومية الدولتية، ومن بين الأنواع الثلاثة التي عرفت تقليديا: الحرب الخصوصية (بين الأفراد)، الحرب المختلطة (بين الدول) والحرب العامة بين الدول... الحروب بين الدول ما زالت موجودة، طبعا، لكنها، وهذا هو الأخطر، لم تعد المعيار. إن الحروب العرقية، الدينية والثقافية بين الجماعات والشعوب لا تعترف بالحدود بين الدول الأمم، بل تعتبرها حسب خطوط قسمة مغايرة جدّاً. لم تعد الحدود، في ظل هذه الحروب، جغرافية، بل أصبحت تخرق الخطابات المتبادَلة وتتغير وتتحول حسب الفضاءات التي تنطلق منها وتعبر عن نفسها داخلها. لم يعد الذهاب إلى الأقاصي التدميرية للحرب مقتصراً على الدول وحدها، ولعل ال11 من شتنبر حاضر هنا ليؤكد لنا أن القرن الحالي قد يشهد تحقيق النبوءة الكارثية المتمثلة في المزيد من التدمير. لقد أسهم الإرهاب الدولي في تحويل الحرب إلى شيء آخر غير الصراع بين الدول، لأن الفاعلين المباشرين فيه ليسوا دولا، بالرغم من أنه، في أغلب الأحيان، قد يكون مسانَدا من طرف هذه الدولة أو تلك أو من يحل محلها. تعددت المخاطر الناجمة عن الحروب الأهلية المُعوْلَمة وصارت مرتبطة بخسائر لا تطال الجانب الأمني والعسكري والسياسي فقط، بل تطال، أيضا، الجوانب الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، بل إن هذه المخاطر التي أدت إلى تعميم العنف وبؤر التوتر، وساهمت في انمحاء دول واندثارها وتحويل أخرى إلى دول فاشلة أمنيا وحاضنة لبؤر الإرهاب وتحويل دول أخرى إلى مجرد قوى دولية تلعب أدواراً بوليسية في مناطق معينة. لقد تمت خوصصة الحرب وتحولت، تبعا لذلك، إلى تجارة، إلى رساميل تهاجر بحرية، مستفيدة من حرية السوق الرأسمالية المعولمة. لم تعد الدولة المحتكر الوحيد للعنف الشرعي، كما يرى ماكس فير، بل تعددت بؤر شرعنة العنف، خطابيا وإيديولوجيا. وهنا بالذات، فإن انتشار العنف كونيا شبيه، إلى حد كبير، بانتشار الفيروسات، أيّاً كانت نوعيتها، وبانتشار الشبكة العنكبوتية (الأنترنت)، والأخبار والوثائق (ويكيليكس). إن سيادة الدول نفسها أصبحت محط تساؤل، ما دام الكثير منها غيرَ قادر على فرض سيادته على ترابه الوطني. ينضاف إلى ذلك، أيضا، هذا التواشج الرهيب في المصالح بين «مافيات» الأسلحة والمخدرات والتنظيمات الإرهابية في مناطق عديدة من العالم. لقد مررنا، من الحرب الحديثة إلى الحروب ال«ما بعد -حداثية»، مع ما يستوجبه هذا المرور من نتائج كارثية، وعلى رأسها ُفقدان الحرب، من حيث هي ظاهرة للقوة والقدرة، عقلانيتَها، أو العقلَ الناظم الذي يُسهم، بفعالية، في ضبط محتوياتها وفي وضع حد لها من الداخل.
تعتبر وسائل الإعلام السمعية البصرية والمكتوبة والإلكترونية، شاءت أم أبت، فاعلا أساسيا ومشاركا فعليا في زمن الحرب التي تحاول تغطية أحداثها. والسؤال حول وظائف الإعلام في أزمنة الصراعات المسلحة لا يبقى رهينا بمهمة الإدلاء بالشهادات المرئية والمكتوبة حول الأحداث المتسارعة في زمن الحرب، وإنما يتجاوزه أحيانا، بل ودوما، بالاصطفاف الإعلامي إلى جانب إحدى أطروحات المتصارعين، الإيديولوجية والعسكرية. ومن تم، يأتي الإعلام ليغطي أحداث القتال والتطاحن، دون أن يستقل تماما عن القيام بوظائف تبرير الحرب أو شجبها، وهي وظائف موجَّهة بأجندات سياسية تتمايل اضطرادا مع ما يريده الرأي العام، حيث قليلة، بل نادرة، هي وسائل الإعلام الأمريكية التي عارضت اجتياح الجيش الأمريكي للعراق (على الأقل إبان اندلاع الصراع)، ونادرة هي وسائل الإعلام العربية التي بقيت محايدة في حرب إسرائيل ولبنان الأخيرة. ومن تم، فالإعلام لا يغامر تماما بمعارضة اتجاهات الجمهور ومواقفهم العامة من الحرب، كما أنه لا يلج البؤر الساخنة للتغطية المباشرة إلا بمباركة أحد المتطاحنين، وتزيد صعوبة الصراع ومخاطره المحدقة من النفاذ إلى الجهات المحايدة داخل الحرب (وهم عموما المواطنون العُزَّل غير المشاركين). كما أن تغطية الحرب هي تغطية الموت، ومن لا يصور الموت والجثث ويعدد الضحايا والقتلى لا يضمن فرص مشاهدة ومتابعة. إننا، هنا، بصدد عائق التصوير المباشر للحرب (réalité)، وعائق التفرد بالوقائع (exclusivité) وعائق الوصول إلى الحياد داخلها (neutralité)، وعائق الإثارة والدم (تغطية الحرب هي كشف الجثث) بعد عائق كسب ثقة الجمهور والمتتبعين. الإعلام المتواطئ مع الجيش يعلن الإعلام الحرب ويقرع طبولها ويغطي أحداثها ويفتح، بعد انتهائها، فوهة النقد والشجب، بعد تعداد الخسائر المادية والبشرية. فقبل إطلاق أول «رصاصة» في حرب الخليج الأولى والثانية، على عهدَيْ الرئيسين الأمريكيين الجمهوريين، جورج بوش الأب وبوش جونيور الابن، اصطفت كبريات الشركات الإعلامية الأمريكية الموالية للجمهوريين (cnbc -fox News -cnn -nbc) من أجل التكلف بمهمة إعداد الرأي العام الأمريكي (الديماغوجي والسيكولوجي) من أجل «مباركة» الحرب، وهي مهمة ترتكز، دوما، على حوالي 4 تقنيات أساسية يستعملها الإعلام المتواطئ مع الجيش في جميع الحروب: أولى التقنيات هو التحكم والتفرد بالمعلومة الرسمية، حيث تختار مؤسسة الجيش وسائلَ الإعلام الشريكة التي ستزودها ب«السّْكوبّات» والخبريات والمعلومات بل، أحيانا، ببيانات العتاد العسكري وتسمح لها بدخول أحصنة الجيش المحصَّنة وتفتح لها أبواب الخزائن والموارد والزاد العسكري، بتوفير نسبة عالية من الولوج إلى المعلومة العسكرية. ويعطي هذا التحكم في المعلومة العسكرية سبقا صحافيا كبيرا للموالين لمؤسسة الجيش الرسمية وللحزب الحاكم، في جو يسوده مبدأ عدم تكافؤ فرص الحصول على المعلومة الإستراتيجية. كما يمنح هذا التفرد بالمعلومة مصداقية أكثر للإعلام الرسمي، بكونه الإعلامَ المطلع والعارف. ولا عجب في أن يصرخ رالف غلينينبرغ، وهو من الباحثين الإعلاميين الأفذاذ المتخصصين في إعلام الحرب، قائلا إن زمن الحرب هو الفترة الأكثر خصوبة والأكثر مردودية لوسائل الإعلام الموالية للنظام، من حيث الزيادة في نِسَب مشاهدتها، لأنها تتوفر على الأخبار والصور الطازجة والتعليقات والتصريحات النادرة التي تمدها بها، بشكل غير ديمقراطي، مؤسسة الجيش وصناع الأسلحة... تتمثل ثاني التقنيات في «فبركة» المعلومات وتوجيهها، حيث لا تكون نسبة المعلومات الاستخباراتية والعسكرية والإستراتيجية التي يقدمها النظام المستعد للحرب، والتي يصرح بها للرأي العام (لا تكون) صحيحة مائة في المائة، بل تشوبها نسبة من المعلومات الافتراضية والمعلومات العرضية، وأحيانا كثيرة، المعلومات المصطنعة التبريرية. وكلنا يتذكر ما قام به كولن باول، وزير خارجية جورج بوش -الابن، عندما قدم عرضا في مجلس الأمن يشرح فيه المبررات الواهية التي دخلت التاريخ، والمتعلقة بامتلاك نظام صدام حسين «أسلحةَ الدمار الشامل»... وقد تم التشكيك في ما بعدُ في ضلوع ديك شيني وكوندوليزا رايس وكولن باول وجورج بوش، الذين يحتلون مواقع مهمة في مجلس إدارة شركة «كارلايل» لصناعة الأسلحة، في تفويت أكبر صفقة عسكرية لهذه الشركة، بمليارات الدولارات. لكن المشكل، دائما، في المنظومة الإعلامية الأمريكية والعالمية، أنه لا يسمح لها بدور الفضح إلا بعد فوات الأوان!... وتتمثل ثالث تقنيات التضليل الإعلامي في التشويش على المعلومات والحقائق بجوقة من الخبريات الهامشية والفضائح ذات البعد الفردي، التي يعطى لها حق الأسبقية والنشر، إذ لم يعد المواطن الأمريكي -مثلا خلال حرب الخليج الثانية- يقدر على فك شفرات الأسباب الموضوعية التي أفضت إلى اتخاذ قرار الاجتياح، حيث أمطرته وسائل الإعلام، وخصوصا القنوات التلفزيونية، بومضات قوية من الظواهر والحقائق ذات الصلة بالحرب لكنها مكثفة وكثيرة ولا رابط منطقي لها: العراق تمول القاعدة -العراق تصنع أسلحة بيوكيماوية -الأنتراكس سلاح من أصول عراقية -سوريا تساعد في تهريب الصواريخ من العراق- العراق ونيجيريا متورطتان في تخصيب اليورانيوم -تهريب مخطوطات تخصيب اليورانيوم من إيران إلى العراق -المخابرات العراقية متوغلة في السعودية، وهي التي مولت القاعدة في بداياتها... المهم هو أن الروابط المنطقية تتفكك، وهو تعويم إعلامي ديماغوجي يسمح بضياع الحقائق ويصعب عمليات الكشف عنها... وحتى نشر فضيحة صور سجن «أبو غريب» لم تكن بتلك البراءة والعفوية المقصودة.. إنها فضيحة تمت صناعتها لخدمة أهداف إعلامية وديماغوجية صرفة، هدفها الأول: تحويل أعمال العنف والدمار الهائل والجرائم الإنسانية التي اقترفتها مؤسسة الجيش والبانتاغون (والتي لا نتوفر على صورها وبياناتها كاملة) إلى مجرد أحداث فردية شاذة اقترفها جندي أو اثنان من الشواذ جنسيا وهو ما يلعب دور تقزيم لهول الكارثة. الهدف الثاني من صور سجن «أبو غريب» هو تحوير المحاسبة والعقاب لتشمل جنودا فرادى متفرقين، بدل أن تشمل مؤسسة الجيش كمؤسسة ارتكبت أخطاء إستراتيجية قاتلة قبل وأثناء وبعد الحرب كلفت المواطنين ودافعي الضرائب أموالا طائلة غير قابلة للاسترجاع... ويعتبر التصوير الإعلامي لمحاكمة الجنود المتورطين في أحداث سجن «أبو غريب» بمثابة تمويه كبير للمحاسبة الحقيقية اللازم القيام بها في حق إدارة بوش ومن معه.. إنها الآلية التي يطلق عليها علماء النفس آلية النقلة (mécanisme de transfert). وتتمثل رابع التقنيات، وهي شعبوية بشكل كبير، في الترهيب الإعلامي لمعارضي الحرب، بدعوى خيانتهم العظمى للجيش. فمقابل التقديس المفرط، الذي تمنحه وسائل الإعلام والصناعات السينمائية للجيش الأمريكي (بنفس قدر ما فعله كوبلز لصالح الجيش النازي) باعتباره رسولا للديمقراطية ونشر القيم الأخلاقية الأمريكية والمضحي الأول في سبيل نُصرة وعظمة الولاياتالمتحدةالأمريكية (حيث لا أحد يجرأ على انتقاد ما يسمونه (Troops)، يأتي الإعلام المتواطئ معه للعب دور شرطي يدافع عنه وعن رمزيته. ليس من السهل المرور مباشرة في القنوات التلفزية الأمريكية كقناة «Fox News» دون أن يمارس عليك بيل أوريلي (وهو أشهر المحاورين السياسيين الجمهوريين في القناة) أشد وأقسى أنواع الرقابة الإعلامية على مواقفك المعارضة، حيث مررت هذه القناة، كما كقنوات تلفزية كثيرة، طيلة فترة حرب الخليج الأولى والثانية، محاورات «موجهة» مع العمل، أيضا، على اقتناص معارضين للحرب وجرهم إلى البلاطو، من أجل جلدهم وصلبهم أمام الأمريكيين، بشكل أصبح يخاف معه «الرأي الآخر» المرور عبر هذه القنوات للعبير عن نفسه... حيث يُسمَح لك في وسائل الإعلام الأمريكية بانتقاد الحرب إن شئت، لكن لا يُسمح لك، أبدا وقطعا، بانتقاد الجيش والجنود وما يقومون به من تضحيات... انتقد الرصاصة إن شئت وصِفها بالطائشة، إن أردت، لكنْ لا يُسمح لك، أبدا، بانتقاد من يحمل البندقية... منطق التغطية الحية للموت قامت قناة «CNN»، تحت إدارة تيد تيرنر، خلال حرب الخليج الثانية، بالانتقال إلى مرحلة جديدة من التغطية الإعلامية لزمن الحرب، حيث لم يسبق أن واكب الأمريكيون والعالم وقائع القصف والعصف 24 ساعة على 24، بفضل عمل تصويري وإخراج ومونتاج سينمائي (كما ألعاب الفيديو) وأصبح ممكنا، من الناحية التلفزية، مشاهدة بغداد ومعالمها تنهار. لكن الحرفية -حسب مايكل مور- التي اتسمت بها التغطيات الحية لقناة «CNN» تميزت بشيء ماكر للغاية: القصف لا يُظهر سوى أضواء وامضة تشبه كثيرا ألعابا وشهبا نارية (لا مجال لتصوير الدمار البشري تحتها)... بخلاف ما حاولت قناة الجزيرة فعلَه.. (لأن أجندتها التحريرية مناقضة تماما لقناة CNN) عندما قرّبت عدسات كاميراتها من الجثث المقطوعة والأيادي المفصولة والأحشاء المبثوثة على الأرصفة، بغاية صعق جوارح المشاهدين... المستجَدّ الإعلامي الثاني الذي وسم تغطية الحروب الأخيرة على العراق وفلسطين ولبنان هو تمتيع المشاهدين بحق الرؤية المباشرة، من أجل تقديم الشهادات المباشرة (Eyewitness News). لم يعد المتطاحنون يحتاجون إلى تقديم تقارير دبلوماسية حول الأوضاع، لأن كل الأوضاع -حتى السرية والحميمية منها- أصبحت مواضيع مشاهدة مباشرة. وحتى بث زمن الحرب أصبح يمر في وقت الذروة وأصبح حدث الحرب يحتل مكان أضخم الاستثمارات الإشهارية. لكن هذا المشهد، الذي يوحي بالتغطية المفتوحة والحقائق المتناولة، يُخفي وراءه أضخم عمليات الرقابة التي يمكن ممارستها على الإعلام الحر الذي تتجاوزه متتالية الأحداث المتسارعة، والذي لا يقْدر لا على مجاراة الأحداث مع الجيش في عين المكان، ولا وقت لديه لتمحيص ما يبعث به الإعلام «المتواطئ» من تقارير وصور... من له حق ولوج ساحة المعركة؟ الصحافيون المدمجون (Embaded) داخل الجيش هم ثلة من الصحافيين (مصورين ومحررين ومذيعين ومعلقين...) تلقوا تدريبا عسكريا قبليا، قبل الانخراط مع الجنود ومرافقتهم لتصوير الوقائع الحية للحرب وبثها، وهي إستراتيجية ذكية لكنها ليست حديثة العهد. الغرض منها أولا وضع المواطنين في عين الحدث وثانيا الدعاية لمجهودات الجيش خارج البلاد (داخل حلبة التحرير) وثالثا صناعة الصور المبتورة حول الحقائق الكارثية المحايثة لكل حالة حرب. النتيجة المنطقية للإعلام المدمج في الحرب (Embaded Media) هو فرض السيطرة والتحكم في تحركات الصحافيين (بدريعة حمايتهم الجسدية) و»غربلة» إنجازاتهم الإعلامية والوثائقية. ولأن غالبية الصحافيين والمراسلين (العاملين مع القنوات أو لحسابهم الخاص) لا يقدرون على المجازفة بالذهاب إلى الحرب دون مرافقة الجيش، فإن غالبية إعلاميي الحروب يكونون صحافيين مدمَجين. والحرب، بالرغم مما تبدو عليه من كونها منفتحة وقابلة لأن تكون موضوع تغطية إعلامية شاملة، فإن عكس ذلك هو ما يقع، حيث يحتفظ الجيش دائما بسرية العمليات، وخصوصا الإستراتيجية، ويتحفظ بتغطية مداهمات عنيفة، كما أنه لا يُسمح بتغطية أخطائه -وما أكثرها في زمن الحرب... ولا يسمح الجيش بوصول الكاميرات إلى المناطق المتوترة إلا بمباركة منه. ومن يخرج عن أجندته الإعلامية، تتم تصفيته في الحال، وهو ما وقع للصحافيين والمصورين الذين كانوا يبيتون في فندف فلسطين في بغداد عندما قصفه الجنود الأمريكيون بمجرد علمهم أن شرفاته تطل على أكثر الأهداف الإستراتيجية أهمية، الموضوعة في مخطط القصف... كما أن مواقع العديد من القنوات التلفزية تكون أول أهداف القصف العسكري، لأن التصوير والتغطية ممنوعان في العديد من العمليات والمداهمات، وبالتالي، ما زالت الحرب -بالرغم من أنها من أهم المواضيع تناولا- تبقى، بالمقابل، وبشكل «بارادوكسي»، أكثر المواضيع تكتما وسرية، بتواطؤ مع وسائل الإعلام المدمَجة في الحرب...
الحرب قائمة وبدائل المشاهدة قليلة في 2003، أدى حدثان إلى ازدياد الوعي والتعبئة لدى الأمريكيين حول الموضوع التالي: النقص الفظيع في الروح النقدية لدى الصحافيين الأمريكيين في ما يخص الحرب في العراق وقرار اللجنة الفدرالية للاتصالات تسريعَ تحرير قوانين الإعلام. ففي نونبر 2003، تجمع حوالي 200 شخص في مؤتمر نظمته «جمعية الصحافة الحرة» في ماديسون، وهذا أمر نادر، بينما لوحظ في صفوف الحضور جيس جاكسون، المرشح للرئاسة الأمريكية سنة 1984 و1988، إضافة إلى بيرني ساندرز والمسؤول النقابي جون سويني والمؤرخ الشعبي ستودس تيركل. وقد خلص المؤتمرون -وهو شيء نادر في أمريكا- إلى أن وسائل الإعلام الكبرى تنسق مع «البانتاغون» من أجل التخفيف من وطأة الحرب، حيث تبث وتنشر أدنى نسبة من صور الجنود الأمريكيين القتلى والتوابيت التي تعاد فيها جثامينهم إلى أمريكا... وينطبق التعتيم نفسه على الجرحى جروحا خطيرة من الجنود الأمريكيين أنفسهم، الذين لم يُسمَع عنهم الكثير. تقول آمي غودمان، مقدمة البرنامج الإذاعي ذائع الصيت «الديمقراطية الآن» على شبكة «باسيفيا»: «لو شاهد الأمريكيون، لمدة أسبوع فقط، ما يشاهده الناس في سائر أنحاء العالم، لأقلعوا عن دعمهم للحرب. لكن غالبية تحقيقاتنا التلفزيونية تُشبه دعايات العتاد العسكري»... خلاصة ذلك أن الكثير من المشاهدين الراغبين في معلومات أكثر توازنا، انقلبوا إلى «BBC» البريطانية، منذ بداية الحرب على العراق. وقد أسفت النائبة الأمريكية تامي بالْدوين، في مؤتمر ماديسون للجنة الفدرالية للاتصالات، باعتبارها عضوا في الكونغرس الأمريكي، على كون الإعلام متواطئاً مع الجيش وعلى كون الوصول إلى الحقائق متعذرا». وقد شهد شاهد من أهلها...