منذ عدة أشهر وأنا أتواصل مع جوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكيليكس»، لترتيب حلقة معه في برنامجي التلفزيوني «بلا حدود»، لكني واجهت صعوبات كبيرة، وكلما رتبنا موعدا يتم إلغاؤه في اللحظة الأخيرة بسبب أن أسانج يتحرك بحساسية شديدة على اعتبار أنه المطلوب رقم واحد بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة بسبب الوثائق التي ينشرها تباعا عن الانتهاكات التي تمارسها (الولاياتالمتحدة) في أفغانستان والعراق، ورغم أن ما نشر قبل أيام من وثائق لم يكن المرة الأولى التي ينشر فيها موقع «ويكيليكس» الإلكتروني وثائق عسكرية سرية تفضح الجرائم التي ترتكبها الولاياتالمتحدة في حروبها القائمة في أفغانستان والعراق، فإنها المرة الأولى في التاريخ العسكري التي ينشر فيها ما يقرب من 400 ألف وثيقة عسكرية سرية لحرب لازالت قائمة على الملأ، فالوثائق -التي اطلعت عليها قبل نشرها عدة مصادر إعلامية عالمية، بينها قناة «الجزيرة»- كانت من أخطر ما نشر عن الحرب القائمة في العراق منذ عام 2003، ليس فقط للمعلومات التي وردت فيها ولكن أيضا لكون مصدرها هو الأمريكيون أنفسهم ولكونها تشكل أكبر إدانة للتاريخ العسكري الأمريكي الحديث، فمعظم وثائق حرب فيتنام لم تنشر حتى الآن، وهي الحرب الأكثر دموية بين صفوف القوات الأمريكية، حيث قتل فيها ما يقرب من خمسة وخمسين ألف جندي وضابط أمريكي. ولنا أن نتخيل عدد القتلى في صفوف الفيتناميين، ولاسيما من المدنيين، حيث أكدت الوثائق التي كشف عنها في حرب العراق أن 63 في المائة من القتلى في العراق هم من المدنيين، ومن المؤكد أن النسبة في الواقع أعلى من ذلك، حيث لا يهتم الأمريكيون بأية عمليات تصنيف كما جاء في الوثائق أيضا للقتلى من العراقيين في كثير من الأحيان، ومنها عدد الضحايا الذين سقطوا في معركة الفلوجة في عام 2004 والتي كانت من أكثر المعارك دموية في تاريخ الاحتلال الأمريكي للعراق. وهذا يشير إلى أن النسبة التي لم يحصها الأمريكيون من القتلى ربما تكون الأعلى في ظل الاعتراف الأمريكي أيضا بأن نوري المالكي، رئيس الوزراء المنتهية ولايته، والذي يحظي بدعم أمريكي واسع، له ميليشياته الخاصة التي تأتمر بأوامره وتمارس كافة أشكال الجرائم على الساحة العراقية. كما تؤكد الوثائق الجريمة التي ارتكبتها القوات الأمريكية من أول يوم دخلت فيه العراق، وهي التقسيم الطائفي للعراق والعراقيين حتى أفرز، في النهاية، رئيس وزراء طائفي بامتياز، حسب الوثائق الأمريكية، وهذا فتح المجال أما الاستخبارات الإيرانية لتمارس ما تريده على الساحة العراقية حتى أصبحت العراق ساحة مستباحة للمخابرات الإيرانية وعملائها تحت سمع القوات الأمريكيةالمحتلة وبصرها، وكأن العداء الأمريكي لإيران ليس سوى قشرة للتغطية على العلاقات الخفية أو التغاضي الأمريكي عن الدور الإيراني في العراق. أما فوضى القتل التي تمارسها القوات الأمريكية وقوات المرتزقة التي تقاتل معها، سواء التي تعمل مع شركة «بلاك ووتر» سيئة السمعة أو غيرها، علاوة على الاستمتاع بقتل المدنيين أو المراهنة عليهم من قبل الجنود الأمريكيين الذين تربوا على الاستهتار بالإنسان وقيمته، فإن الوثائق التي تكشف عن ذلك تعتبر خطيرة للغاية، حيث بدا الاستهتار في ممارسة القتل والاستهتار الأكبر في تسجيل الحالات، وكأن الذين قتلوا ليسوا من البشر، لأن القتلة في واقع الأمر لا ينتمون إلى عالم البشر. أبشع ما في هذه الجرائم هو قتل الأطفال أو قتل الأب والأم أمام أطفالهم، أو قتل الأطفال أمام آبائهم وأمهاتهم. والجريمة الأكبر هي عدم المساءلة، ولاسيما للمرتزقة الذين يعيثون فسادا في العراق بدعم من القوات الأمريكية وحمايتها لهم، حيث أكدت الوثائق أن أيا من مجرمي الحرب لم يساءل ولم يعاقب على ما ارتكبه من جرائم. كثير من القصص والروايات الصحفية تم تداولها على مستوى واسع حتى في الصحف الأمريكية عن بعض الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمريكية في كل من أفغانستان والعراق، لكن هذه هي المرة الأولى التي يتم التأكيد فيها على كثير من هذه الجرائم من خلال وثائق عسكرية أمريكية. الأمريكيون لم يشككوا أو ينفوا أيا من هذه الوثائق التي كشفت عن هذا الحجم الكبير من الجرائم التي ترتكب في حق الإنسانية، ولكنهم ينتقدون كشف هذه الوثائق لكونها حسب زعمهم تعرض قواتهم المحتلة للخطر، وهذا عذر أقبح من الذنب. إن كشف هذه الجرائم سيلعب دون شك دورا في تقليلها وتحجيمها وفتح باب الحساب للمجرمين الذين ارتكبوها. وإذا كانت الولاياتالمتحدة تستقوي بقوتها العسكرية وتحول دون التحقيق في هذه الجرائم، فإن دوام الحال من المحال وتوثيق هذه الجرائم الآن هو الأهم حتى يأتي يوم الحساب.