نظرات الريبة والشك التي تلاقي الزائر العربي لمدينة جوبا، في جنوب السودان، لا تدع أي مجال للشك في أن الجنوبيين ما عادوا قابلين بأي شكل من أشكال الوحدة مع الشمال العربي ولا المشروع الإسلامي، وباتوا يفضلون الغرب أولا والجوار الإفريقي ثانيا. وليس غريبا أن يمد الزائر العربي يده لمصافحة أحد أبناء جوبا فترتد اليد الأخرى إلى الوراء وتحل مكانها نظرة فيها من العدائية ما لا يبشر بأي خير. هو التاريخ الاستعماري ربما، وهي الحرب التي امتدت أكثر من عشرين عاما بلا شك، لكن هو أيضا التأجيج المباشر وغير المباشر الذي تبثه دعاية الحركة الشعبية في الجنوب بغية الانفصال عن الشمال السوداني. ليس غريبا والحالة هذه أن يسمع الزائر العربي في جوبا عبارات من نوع «لا نريد عربا هنا»، وهو أمر يدعو فعلا إلى التساؤل عن سر هذا الحقد الدفين والمعبر عنه بوسائل مختلفة، أقلها الرغبة الفعلية في الانفصال، والأسوأ فيها تنامي مشاعر العنصرية، كرد فعل تاريخي على عنصرية أخرى كانت، على ما يبدو، تمارَس ضد جنوبيين في شمال السودان. تقول عواطف، وهي باحثة سودانية في علم الأحياء وناشطة في مجال مكافحة الإيدز: «كنت أدرس في الخرطوم، وكنت كلما مشيت مع صديقتي السودانية الشمالية، يتضاحكون علي ويقولون لها بشيء من السخرية: لماذا تسيرين مع زيتونة»... والزيتونة هنا تشير إلى اللون الأسود. وتروي كيف أنها، هي المسيحية، كانت تضطر إلى ارتداء غطاء الرأس وثياب طويلة فضفاضة لتناسب مبادئ الشريعة المفروضة في شمال البلاد. لا شيء في جوبا يشبه الخرطوم، فالجنوب يبدو منفصلا فعليا عن الشمال، ولو جاء الصحافي، مثلا، بتصريح شمالي للعمل هنا، فقد يلقى شيئا من السخرية، ويسارع مسؤول الإعلام على المجاهرة بشيء من العصبية والغضب: «هذا لا نعترف به هنا، نحن دولة مستقلة في ظل النظام القائم حاليا، وإن كنت تريد أن تعمل بهذا التصريح فما عليك سوى العودة إلى الخرطوم». فوضى عارمة في جوبا... وعاصمة الجنوب تشبه إلى حد بعيد ما كانت عليه بيروت أثناء سيطرة منظمة التحرير والميليشيات المسلحة، لا تدري من يوقفك في الطريق ومن يطلب هويتك، والازدهار الاقتصادي الذي شهدته في السنوات الخمس التي أعقبت «اتفاق نيفاشا» للسلام منذ العام 2005 بات يؤكد، في ذهن المواطن الجنوبي، أنه كلما ابتعد الجنوب عن الشمال، تحسن وضعه. وعلى أهميتها، فإن مساحيق الاقتصاد لا تلغي تجاعيد الحرب ومفاعيل النزوع نحو الانفصال، وليس غريبا أن الفندق اللبناني ذا الخمس نجوم القائم في جوبا والذي يعتبر الأول من نوعه هناك رغم حداثة إنشائه، ليس غريبا أن يكون مضطرا إلى توظيف 12 حارسا جنوبيا مسلحين برشاشات الكلاشينكوف، وما إن ينتصف الليل حتى تغلق كل الأبواب الخارجية خشية تكرار عملية السطو المسلح التي تعرض لها سابقا، حيث تم سلب 22 ألف دولار من صندوق الفندق. يبدو أبناء الجنوب السوداني فرحين بقرب انفصالهم عن الشمال، يحدوهم الأمل في أنه بمجرد الانفصال ستسيل أنهار اللبن والعسل وسوف يبيض النفط ذهبا خالصا ويحل النعيم محل الحرمان والفقر، وهذا بالضبط ما يشاهدونه في جوبا التي صارت فيها زحمة السيارات والمحال العشوائية، وحركة فنادق غريبة من نوعها، ذلك أن غرفة متواضعة في فندق مبني من ألواح الألومينيوم قد تكلف ما بين 200 و300 دولار لليلة الواحدة. وعلى غرار ما كانت عليه بيروت في عهد الميليشيات، فإن سيارات الدفع الرباعي والجيبات تجوب الشوارع على نحو عشوائي، تتخللها مئات الدراجات النارية، وتجد شبانا ينتظرون عند جوانب الطرقات يرصدون كل حركة غريبة في مدينتهم، أما الغرباء فحدِّث ولا حرج، من القوات الدولية إلى المبعوثين الدوليين إلى المبشرين بالمسيحية. ولو ابتعدت أمتارا قليلة عن فندق «صحارى» اللبناني، فستجد لافتة لفندق مجاور مكتوبا عليها «Shalom» لم يعد غريبا في جوبا أن تسمع عن إسرائيل وتشاهد آثارها في السياسة والأمن والحركة التجارية، وإن عز الأمر مباشرة، فلم لا عبر الاصدقاء الإريتريين الذين يحركون الكثير من الفنادق هناك. وفي الطريق الفاصلة بين فندق «نيو سلام» والمطار، تسير تظاهرة تضم أكثر من 200 شخص، كلهم رهبان وراهبات سود، يتربع الصليب الكبير على صدورهم، كأنما للقول إن وجهة المدينة ستكون بعد اليوم غربية مسيحية إفريقية. يتصور المرء كيف ستكون حال الدكتور حسن الترابي، منظّر الإسلام الحديث في السودان، لو شاهد تلك التظاهرة، هو الذي صدَّق يوما ما أن مشروعه الحضاري الإسلامي سيعم الجنوب ويمتد عبره صوب الجوار الإفريقي، ولمَ لا: صوب العالم أجمع. تشكل جوبا، بلا شك، فشلا ذريعا للمشروع الإسلامي، وقلما تجد مسؤولا جنوبيا من الحركة الشعبية أو من معارضيها، لا يحمّل «الهيمنة العربية الإسلامية» مسؤولية ما حدث وسيحدث للجنوب وغير الجنوب. هذا منصور خالد، وزير الخارجية السابق والقيادي في الحركة الشعبية الجنوبية، رغم أنه شمالي، يقول صراحة في كتابه عن الجنوب والهيمنة والقمع، إن العروبيين في السودان هم الذين أوصلوا الأوضاع إلى ما هي عليه بسبب استعلائهم وقمعهم. ويسعى هذا المثقف السوداني، اللامع والمتهم بالدوران في مناخات أمريكية، إلى تأكيد أن الحركة الشعبية كانت مع قائدها الكاريزماتي جون قرنق وحدوية إلى أقصى حد وأن كل ما يقال عن علاقتها بإسرائيل ليس سوى صنيعة أوهام العروبيين. لكن اللبن والعسل الموعودين في الجنوب قد ينقلبان علقما على دعاة الانفصال، فالصراعات الجنوبية الجنوبية كثيرة، وها هو موقع وزارة الخارجية الفرنسية على الأنترنيت يؤكد، مثلا، أنه منذ العام الماضي قتلت تلك الصراعات أكثر من 9 آلاف شخص. وليس أفضل من الدكتور المهندس لام أكول، زعيم ومؤسس حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان التغيير الديمقراطي، أي الحزب الذي انشق عن الحركة الشعبية، للتعبير عن طبيعة الصراعات... فهو يشن حملة شعواء ضد حكومة الجنوب ويتهم الحركة الشعبية بزعامة سلفا كير ميارديت بالسعي، تحت تأثيرات، غربية إلى فصل الجنوب. التقيته في أحد فنادق جوبا، حيث كان شارك لتوه في مؤتمر جنوبي جنوبي بغية الاتفاق على المرحلة المقبلة، فأكد ضرورة وقف احتكار الحزب الواحد في الجنوب للسلطة، أي الحركة الشعبية، وأن الانفصال قد لا يحصل لو أن الأطراف الأخرى قالت كلمتها، وجدد تأكيد أن الحركة الشعبية هي التي تنمي مشاعر الانفصال عند الجنوبيين، لكنها لا تسيطر على الشارع الجنوبي. يبدو أن في ما يقوله لام أكول كثيرا من الصحة، فإذا كانت الحركة الشعبية تستند خصوصا إلى المد الشعبي القبلي الذي تمدها به قبائل الدينكا، فماذا عن قبائل النوير والشُّلُك الجنوبية، وماذا عن قبائل المسيرية العربية التي ستدخل، على الأرجح، في مرحلة النزاع المسلح الخطير مع قبائل الدينكا نقوك في منطقة أبيي ما لم يتم الاعتراف بحقها في الرعي والثروة النفطية والحدود. لعل هذا بالضبط ما يراهن عليه أهل الشمال السوداني رغم خطورة الأمر، فثمة قيادات شمالية بارزة تقول، دون رغبة في ذكر اسمها، إن الانفصال قادم، لا شك في ذلك، لكنه قد لا يدوم طويلا، ذلك أن تناحر الجنوبيين بين بعضهم والمشاكل التي قد تقع عند الحدود سترهق الجنوبيين وتضعضع قواعدهم وترهق اقتصادهم، وربما بعد ذلك تقوم وحدة جديدة على أسس أخرى... وهم في ذلك لا يستبعدون المقارنة مع ما حصل بين شمال اليمن وجنوبه. وماذا عن العرب؟ كاد السؤال يستحق مجرد ابتسامة ساخرة، لكن ثمة وعيا عربيا متأخرا لا بد من الإشارة إليه، فها هي مصر المهددة قبل غيرها بانفصال الجنوب، تكثف المساعدات الإنسانية والاجتماعية والطبية، وذلك بعد أن كانت نسجت، في السنوات القليلة الماضية، علاقات ود مع القيادات الجنوبية بغية كسب ودها... وها هو أحد أبناء الشيخ زايد من الإمارات يأتي بمشروع زراعي اقتصادي بحوالى 200 مليون دولار، وبينهما عقدت جامعة الدول العربية مؤتمرا في عاصمة الجنوب بغية تعزيز الاستثمار وأواصر الصداقة. ولا يخفي نائب رئيس مجلس النواب السوداني أتيم قرنق، وهو أحد القادة الجنوبيين، رغبته الواضحة في أن يأتي المستثمرون العرب للعمل في الجنوب، ويقول بشيء من اللؤم التاريخي «متى سيخرج إخواننا العرب من حس المؤامرة ويتعاملون مع الواقع، وبدلا من أن يتركوا إسرائيل، وغيرها، تدخل إلى الجنوب، فليأتوا ويقيموا علاقات اقتصادية وسياسية، فإسرائيل دولة صغيرة وفقيرة بالمعنى الاستثماري وهم أثرياء وفي الجنوب مساحات شاسعة من الأراضي القابلة لكل أنواع الاستثمار. لعل الجانب الجغرافي والاستثماري في ما يقوله صحيح، فحين كانت الطائرة تحلق بنا فوق الجنوب، كانت المساحات الخضراء والغابات والأراضي الخصبة ونهر النيل والطبيعة الخلابة والامتدادات الشاسعة لتلك الأراضي تدفع إلى طرح سؤال واحد: «لماذا يقتل العرب دولهم الواحدة تلو الأخرى، وهم قادرون على الاكتفاء الذاتي لو وضعوا مجرد استراتيجية زراعية بسيطة؟! لا شك في أن الجواب صعب، خصوصا أن عددا من القادة العرب لا يعرف، على الأرجح، أين تقع جوبا، ومن هي قبائل الدينكا والنوير والشلك والمسيرية وغيرها، ولا يعرفون أن هذا السودان المجاور لثماني دول وذا المساحات الشاسعة الغناء، والذي منه تستورد شركتا «كوكا كولا» و«بيبسي كولا» الصمغ العربي بدراهم قليلة، هو منجم من الثروات الطبيعية التي ستضيع، على الأرجح، شبرا خلف شبر بينما نبني لغيرنا ناطحات سحاب على الرمال. ولمن يود معرفة شيء في الوقت الراهن عن السودان، فمفاده أن البلاد مقبلة على مصير قاتم، وأن الانفصال سيجر الانفصال، وأن مؤامرة كبيرة تحاك ضد السودان الذي لم يبق لشعبه الطيب والمحب، تاريخيا، للعرب وقضاياهم سوى جلسات «الونس» حين تغيب الشمس فوق نهر النيل.