إبان فترة الصراع بين أبناء المولى إسماعيل على السلطة، ظل العمال التابعون للمخزن المغربي موجودين بشنقيط، فقد نزل المولى عبد الله مرتين إلى « دياني» قرب «تمبكتو» لاستخلاص الضرائب. وقام محمد بن عبد الله بتثبيت حفيد علي شندورة، المختار بن عمر بن علي، على إمارة الطرارزة، كما اهتم السلطان مولاي عبد الرحمان بهذا الإقليم، وعالج شؤونه ومشاكله مع رعاياه به، وهو نفس النهج الذي اتبعه ابنه سيدي محمد بن عبد الرحمان، بعد مبايعته سلطانا على المغرب، موجهين اهتمامهم إلى مسألة التسلل الأجنبي إلى الأقاليم الجنوبية، التي بدأت تستفحل خلال القرن ال19. على أن السلطان مولاي الحسن، في متابعته لنفس الخطة، رفع اهتمامه بهذا الإقليم إلى مرتبة أعلى، حيث سافر إليه بنفسه، في رحلة أولى، وعين مجموعة من العمال وقائدا يستشيرون معه في أقوالهم وأفعالهم، ثم سافر في رحلة ثانية، منح أثناءها ظهيرا بتكليف إبراهيم بن علي بن محمد التكني بحراسة الشواطئ المجاورة لقبيلته، وظل يتابع محاولات التسرب الاستعمارية. ودعما لجهود وقف هذا التسلل، عين محمد بن الحبيب التدرداري قائدا على قبائل مجاط والفويكات وثلث أيت لحسن وزركاط وتوبالت ولميار من الثكنة، ثم وسع قيادته بظهير آخر على قبيلة المناصير من أزركين. وتثبيتا لهذا الحضور المغربي في الصحراء، وبشكل سيادي، كما تؤكد ذلك الوثائق التاريخية، فإن المغرب كان حريصا على إضفاء الشرعية على هذا الحضور، وذلك من خلال الارتباط بقبائل الصحراء بموجب عقود بيعة، تم إبرامها عبر التراضي بين سلاطين المغرب وممثلي القبائل الصحراوية. ويمكن في هذا الصدد التمثيل فقط ببعض النماذج: - بيعة قبائل أهل الساحل والقبلة ودليم وبربوش والنغافرة ووادي مطاع وجرار، وغيرهم، للمولى إسماعيل، وكان ذلك سنة 1089ه، عندما دخل صحراء السوس، فبلغ أقا وطاطا وتيشيت وشنجيط وتخوم السودان. وقد تزوج المولى إسماعيل آنذاك الحرة خناثة بنت الشيخ بكار المغفري. - بيعة أهل توات للسلطان عبد الملك بن مولاي إسماعيل سنة 1140ه. - بيعة للسلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام بمبادرة من أحد الشيوخ الأعلام من صحراء شنكيط، وهو ابن طوير الجنة الطالب احمد المصطفى الشنكيطي التشيني الوداني. - بيعة لمولاي عبد الرحمان أيضا من الشيخ المختار الكنتي الحفيد ابن محمد بن المختار. - بيعة لمولاي عبد الرحمان أيضا للشيخ احمد البكاي بن محمد بن المختار الكنتي. - بيعة للسلطان محمد الرابع من إمام تندوف الشيخ محمد المختار بن الأعمش الجنكي، وفيها يعلن عن بيعة الإقليم للسلطان العلوي محمد الرابع. - بيعات الشيخ ماء العينين للسلاطين المغاربة، والذي كانت علاقاته بالحكومة الشريفة على أحسن وجه، ذلك أنه كان يعتبر في ما بين سنتي 1888 و1900 نائبا للمخزن في الصحراء لا فرق بينه وبين نواب السلطان في مراكش ومكناس وتافيلالت. مشروعية تاريخية وقانونية ثابتة وتحديات إقليمية ودولية معرقلة
إن هذا الحضور المغربي في الصحراء، منذ تأسيس الدولة المغربية مع الأدارسة، ليس ادعاء يرتبط بمعطيات سياسية وإيديولوجية، بل تثبته وثائق تاريخية مغربية وعربية وأجنبية -سنأتي إلى تناولها- وهذا ما يشكل دعما قويا لشرعية السيادة المغربية على الصحراء، بشكل لا يمكن أن تصمد أمامه معطيات المرحلة الاستعمارية، أو فرقعات الإيديولوجية. ومع هذه المشروعية التاريخية والقانونية، التي تربط المغرب بصحرائه، يبقى العائق الكبير، الذي يعرقل تطبيق الشرعية الدولية بناء على هذه المعطيات المتوفرة، هو أن جبهة البوليساريو الانفصالية لا تمثل إلا نفسها، ولذلك فهي لا تمتلك شرعية تمثيل الصحراويين، بقدر ما تنوب عن المصالح الاستعمارية في المنطقة، وفي الآن ذاته تحمي أطماع الدولة الجزائرية التي تسعى إلى عرقلة المسيرة التنموية للمغرب بجميع الوسائل المتاحة. وهذا ما يفرض على المغرب -حقيقة- تغيير الخطة في اتجاه الخصم الحقيقي الذي يعرقل جميع الحلول المطروحة. فمع إسبانيا، يجب الحديث، بشكل واضح وصريح، مع الجار الشمالي بخصوص تصفية الوجود الاستعماري في الجنوب المغربي وفي الجزر المغربية المحتلة، وكذلك في المدينتين المغربيتين المحتلتين (سبتة ومليلية)، إما بشكل تفاوضي، تقوده الديبلوماسية، وإما بفتح المجال أمام الشعب المغربي، بنخبه وأحزابه ومجتمعه المدني، لمواجهة الوجود الاستعماري. والأكيد أن هذا الشعب الذي طرد الجنود الإسبان، عبر مسيرة سلمية (المسيرة الخضراء 1975)، قادر اليوم على طرد ما تبقى من الأطماع الاستعمارية الإسبانية. أما مع الجار الجزائري، فيجب التعبير بشكل واضح، عن التضايق المغربي من المواقف العدوانية للدولة الجزائرية تجاه المغرب، ويجب التعبير بصراحة عن الاستعداد المغربي لمواجهة هذه العدوانية، بمختلف الوسائل المتاحة. وفي هذا الصدد، يجب الخروج من المواقف الازدواجية التي حكمت علاقتنا بالجزائر لعقود، تحت مسمى العطف المغربي على أبناء ثورة المليون شهيد، وذلك لأن جنرالات الجزائر لا يقيمون وزنا لهذا النبل المغربي، الذي عبر عن نفسه في مناسبات عدة، سواء من خلال دفع المغرب ضريبة باهظة لمساعدة المقاومة الجزائرية خلال معركة إيسلي 1844، أو من خلال اجتزاء صحراء المغرب الشرقية، وضمها إلى الخريطة الجزائرية انتقاما (من طرف فرنسا) من المغرب الذي دعم الجار الجزائري حتى آخر لحظة، ورفض أي مساومة من فرنسا حول استقلال الجزائر... ولعل قائمة هذه التضحيات لتطول لو فتحنا لها المجال أكثر. لكن ورغم كل هذه المواقف النبيلة من المغرب، فإن الجزائر ما لبثت، منذ حصولها على الاستقلال، تفكر في إيذاء المغرب بجميع الوسائل، سواء عبر دعم معارضة الداخل، من خلال تمويل الخيار الثوري/اليساري الراديكالي أو عن طريق خلق بؤر توتر في الصحراء المغربية، عبر احتضان منظمة انفصالية ودعمها ماليا وعسكريا وسياسيا. نحن جميعنا، كشعوب مغاربية، لا نحبذ أي توترات بيننا، بل نطمح جميعا إلى ترسيخ أواصر الإخاء في ما بيننا، لمواجهة التحديات الخارجية. ولكن المعطيات على أرض الواقع تعاكس هذه الإرادات الصادقة، الشيء الذي يفرض علينا، كمغاربة، التعامل بواقعية مع التحدي الجزائري الذي يهدد استقرارنا السياسي وتنميتنا الاقتصادية. إذا كانت سيادة المغرب على صحرائه ثابتة -إذن- بمعطيات التاريخ والجغرافيا والقانون الدولي، فإن ما يتوجب عليه فعله هو مواجهة التحديات الدولية والإقليمية التي تعرقل أي حل مطروح لقضيتنا الوطنية الأولى. إدريس جنداري - كاتب وباحث أكاديمي مغربي