أصبحت الحرب في أفغانستان أطول حرب في تاريخ الولاياتالمتحدة. ورغم أرقام خسائرها في البشر والعتاد لم تصل إلى مغامراتها الخارجية السابقة فإن طول الحرب وتزامنها مع ظرف اقتصادي صعب في أمريكا وضبابية أهداف الحرب نفسها واستحالة تحقيق النصر فيها عوامل تحمل على الاعتقاد بأن واشنطن قد تدفع في كابل ما لم تدفعه في هانوي. الرئيس الأمريكي باراك أوباما لم يحتفظ تقريبا بأي من وعوده الانتخابية في السياسة الخارجية، من الانفتاح على خصوم أمريكا إلى نهج موقف متزن في صراع الشرق الاوسط إلى كسب عقول وقلوب المسلمين، لكنه احترم وعده بالتصعيد في أفغانستان. في كتاب جديد للصحفي الأمريكي الشهير بوب وودوورد «حروب أوباما» تتبين بعض التفسيرات على إصرار أوباما على التصعيد وإن لم يتناولها المؤلف مباشرة. واضح من الكتاب أن أوباما كان يريد أكثر من خيار استراتيجي من كبار جنرالاته للتعامل مع «الحرب الأكثر أخلاقية» بالمقارنة مع حرب العراق، لكن أولئك الجنرالات جاؤوه بإجماع واحد يتمحور حول التصعيد وزيادة عدد الجنود. العلاقة المتأزمة لأوباما بالمؤسسة العسكرية كانت في جزء منها من صنيعته وفي جزء آخر من كونه من الحزب الديموقراطي، وعادة ما يفضل الجنرالات رئيسا جمهوريا لأن الجمهوريين لم يروا حربا لم يعشقوها. المرشح الديموقراطي باراك أوباما، الذي وصل البيت الأبيض نتيجة موقفه المعارض للحرب على العراق، وهو ما رجح كفته أمام غريمته الديموقراطية هيلاري كلينتون، لم يكن قادرا على معارضة كل الحروب حتى لايبدو ضعيفا أمام هجوم الجمهوريين فتبنى حرب أفغاستان. وحينما وصل إلى البيت الأبيض كان عليه «أن يفعل شيئا» حتى يبدو «رجوليا» بما في الكفاية فأمر جنرالاته باقتراح بعض البدائل، لكنهم اصطادوه في عقر شعاراته الانتخابية وأجمعوا على زيادة عدد الجنود فانصاع مكرها تقريبا. محاربو المحافظين الجدد فرحوا بانتصاراتهم السريعة في إسقاط طالبان، وقرروا، كما قال وزير دفاعهم دونالد رامسفيلد، «إطلاق قنابل تفوق تكلفتها قيمة الأهداف المدمرة»، فحولوا اهتمامهم إلى العراق. حرب أفغانستان تحولت طيلة حرب العراق إلى حرب منسية تماما حتى في وسائل الإعلام إلى أن أحياها أوباما في معرض انتقاده جورج بوش وأصبح الآن ضحية تلك الشعارات الانتخابية. تصعيد الحرب في أفغانستان دون استراتيجية نصر واضحة كانت من أبرز مسببات الإحباط لدى القواعد اللبيرالية للحزب الديموقراطي في أسلوب حكم أوباما، الذي بات يشرف على حربه في أفغانستان بدعم من الجمهوريين فقط وإن كانوا يتعجلون فشله فيها . ظهور شرائط تسجيل مؤخرا في محاكمات عسكرية تظهر جنودا أمريكيين يعترفون بأنهم قتلوا مدنيين أفغانا وعزلا فقط من أجل الترفيه والتسلية بعد أن أدمنوا على تناول الحشيش الأفغاني أعطى مصداقية جديدة للغلاف الذي طلعت به إحدى المجلات الأمريكية، واصفة أفغانستان ب«فييتنام أوباما» تعرف كابل في الأدبيات العسكرية بأنها مقبرة الإمبراطوريات القديمة، ويعتقد على نطاق واسع بأن بداية نهاية الاتحاد السوفياتي سجلت مع اجتياح جنوده الحمر بلاد الأفغان العصية. قائمة الإمبراطوريات التي كانت أفغانستان مسرحا لاحتضارها طويلة بالفعل، من الإسكندر العظيم إلى الإمبراطورية البريطانية، مرورا باليونان والفرس والمغول، وانتهاء بالسوفيات، وهناك من يعتقد بأن الدور جاء على «الكاوبوي» الأمريكي. في واشنطن هذه الأيام توجد حرب على تلك الحرب خوفا على مايبدو من ذلك المصير بعدما أصبح النصر عصيا وتصور توقيع طالبان وثيقة استسلام على ظهر سفينة –كما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية- أمرا مستحيلا. أمريكا ذهبت، بدعم دولي لا يستهان به إلى أفغانستان للانتقام من كرامتها المجروحة في الحادي عشر من شتنبر ولمعاقبة القاعدة «وتأديب» طالبان لأنها رفضت تسليم ضيفها المثير للجدل أسامة بن لادن.لكن كما بُررت الحرب في فييتنام في بداياتها، وجد الجيش الأمريكي نفسه مع اشتعال أتون الحرب طرفا في حرب أهلية في أحسن الأحوال أو جيشا محتلا في أسوئه. وبين المزايدات السياسية الداخلية ورئيس لايريد أن يبدو ضعيفا أمام الجمهوريين والعسكريين، لكنه لا يريد أيضا فقدان دعم حزبه الديموقراطي ولايريد تعميق إفلاس خزينته وأن تستمر الحرب ويزداد تدمير الأهداف البدائية وتزداد الإهانة لجيش هو الأقوى والأغنى والأكثر تسليحا في تاريخ البشرية. أكثر من مائة مشرع من حزب الرئيس صوتوا ضد ميزانيته لتغطية تكاليف حربه في أفغانستان ليس لأن الخزينة شبه مفلسة فحسب، بل لأن الحرب نفسها لم تعد, تقنع أحدا سوى الجمهوريين للحفاظ على صورة انتخابوية مغلوطة أساسا بأنهم الأقوى في شؤون الأمن القومي. يستخدم معارضو الحرب في جدالهم ما جاء على لسان مدير وكالة الاستخبارات المركزية، الذي قدر عدد أفراد القاعدة في أفغانستان في بضع مئات هرب معظمهم إلى باكستان، مما لا يبرر كل هذه العدة والعتاد، في حين أن «القضاء» على طالبان عملية مستحيلة لأنهم بكل بساطة أبناء البلد. للقفز على هذه المعضلة وحتى يتجنب أوباما انبطاع الرئيس الضعيف عسكريا فقد زاد من عمليات استهداف الأراضي الباكستانية، بل ضاعف عمليات القصف الجوي بطائرات بدون طيار بالمقارنة مع سنوات جورج بوش. فتح جبهة باكستان لم يؤجج المشاعر المعادية لأمريكا في دولة هشة تملك أسلحة نووية فحسب، بل حملت إسلام أباد على معاقبة أمريكا ولو مؤقتا بقطع طريق الإمدادات ليكتشف الحلفاء الجدد، كما اكتشف الغزاة القدامى، أن أفغانستان دولة مغلقة تحيط بها اليابسة من كل جانب ومن الصعب إمداد الجيوش البعيدة دون منافذ بحرية. التصعيد ضد باكستان ذكر الأمريكيين مرة أخرى بالمقارنة مع التصعيد في حرب فييتنام، التي يفضلون نسيانها بعد أن قرر ريتشارد نيكسون «حسم» معركة هانوي بقصف كامبوديا واللاووس. لكن النزيف الحقيقي لحرب أفغانستان لا يسيل في الشوارع المتربة لكابول وقندهار فحسب، بل في داخل الإمبراطورية نفسها. بعد الحادي عشر من شتنبر وللتصدي للخطر الوجودي القادم من أفغانستان ضاعفت واشنطن من ميزانية الدفاع وميزانية الاستخبارات وأصبحت تنفق في المجالين أكثر مما تنفقه جميع دول العالم مجتمعة. و«للقضاء» على مقاتلي كهوف تورا بورا أوجدت واشنطن وزارة جديدة للأمن القومي تعداد موظفيها 230 ألف موظف، بالإضافة إلى ما لايقل عن 263 جهازا لمكافحة الإرهاب. في أمريكا حاليا 30 ألف شخص لا يفعلون شيئا سوى التنصت على مكالمات الأمريكيين والقاطنين في أمريكا في بيروقراطية مخيفة في حجمها، مرعبة في عدم فعاليتها، إذ تذكرنا بعملتي ديترويت ومانهاتن حينما نجح الركاب في الأولى، ومواطن عادي في الثانية في تفادي وقوع المحظور. المزايدات الانتخابية وإمكانية وصول الجمهوريين إلى أغلبية تشريعية تعزز إمكانية تفاقم الوضع في أفغانستان وداخل أمريكا بسبب الخطر القادم من أفغانستان، مما يعطي مصداقية لبعض المراقبين الأمريكيين، ومنهم الرئيس السابق لوحدة بن لادن في ال«سي آي إيه»، الذي قال مؤخرا إن «سياسة أمريكا في أفغانستان ستمنح بن لادن والمجاهدين القدرة على التباهي بأنهم هزموا إمبراطوريتين».