ما هو الجامع بين عرض بوسلهام الضعيف، الذي اتخذ له عنوانا طويلا «حياة وحلم وشعب في تيه دائم»، وبين عرض الزبير بن بوشتى «لقدام البيضا»؟ في الحقيقة، لا يبدو أن هناك رابطا جامعا، عدا أن العرضين يقدمان ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان مكناس المسرحي. فالعرض الأول يستعير قصة حياة المغربي محمد خير الدين الذي عاش تجربة النفي والألم، والثاني يقدم رؤيته لموضوع الهجرة والاستلاب، غير أن ما يوحدهما أكثر هو الحس السوداوي الذي يؤلف مشهدية العرضين. يتعاون الزبير بن بوشتى في مسرحيته الجديدة «لقدام البيضا»، التي عرضها في المنافسة الرسمية لمهرجان مكناس المسرحي، مع المخرج المغربي الجيلالي فرحاتي، والذي يعود إلى المسرح بعد طول غياب سينمائي. ونجح الزبير في دفع فرحاتي إلى خوض غمار هذه التجربة التي جاءت تحمل لمسات التقنية السينمائية، وتجلى هذا بوضوح شديد في بناء فضاء الخشبة وملئه بما يتناسب والتفضية المكانية التي تحتضن مشهدية العمل المسرحي. وتوسل فرحاتي بالتجسيد والتجسيم، وعمل على نقل جو مرأب في ميناء طنجة بكل تفاصيله، دافعا بالممثلين الوحيدين في العرض إلى تحد أساسي يتمثل في ملء كل الفضاء الذي يحتضن هذا الديكور المتعملق، في الوقت الذي يتضاءل فيه الإنسان أمام الأشياء، بل تبدو الأشياء أكثر سعادة من هذا الإنسان الشقي، الذي تعصف به الأقدار وأحلام مضحكة جدا. وبين النزوع نحو تحرير الذات والاستماع إلى الصوت الداخلي، وبين مطاردة الوهم، يسقط هشام بهلول في زيف أحلامه، ويكتشف الحسين بوحسين ثمن الصعود إلى الأعلى. هذا الثنائي الذي حضر بشكل جيد في الفضاء الركحي يؤكد على القدرة الأدائية التي يتمتع بها الشباب في جعل المسرح رهانا من رهانات الكشف والتحول. ودون الحاجة إلى لغة خطابية ولا إلى زعيق، تمكن العرض من الوصول إلى أهدافه في تجسيد أحلام جيل تكبو على الصفيح الساخن، جيل الهجرة، المفتقد لكل ملامح الهوية، والتي تدفعه إلى مزيد من الطموح المجنون في سياق التحولات اليومية التي تطحن الفرد. لا سبيل إلى الخلاص، والأحلام ليست إلا وسادة العاجز، وأوربا لن تكون الملاذ، بل القبر الغريب، وحين تسمو الشخصيتان في العرض، يكون البوح على مساقط الضوء أخف، فاعترافاتنا الحقيقية لا تجد لها مرتعا إلا في العتمة الخفيفة. على منوال آخر، يغزل العرض المسرحي «حياة وحلم وشعب في تيه دائم» العنوان الطويل الذي تقصده تماما بوسلهام الضعيف كي يحكي لنا قصة مختصرة عن اللحظات الأخيرة في حياة الروائي والشاعر المغربي محمد خير الدين الذي عاش حلاوة عمره الشاب في المنفى، قبل أن يعود إلى بلاده كي يموت. لكن الضعيف لا يجعل المسرحية وقفا على حياة خير الدين ولا حديثا عنه، بل يتخذه إطارا لعمله المسرحي ومرجعا له، يشد لحمة العرض، بينما تمضي الحكاية الرئيسة في اتجاه آخر، حيث تحكي قصة سعيدة التي أنجزت بحثا عن خير الدين، والتي لها ابن وحيد، يونس، الذي ذهب إلى فرنسا لدراسة الطب، حيث تنقطع أخباره، قبل أن تعلم أنه انضم إلى إحدى الحركات الأصولية، ذات الفكر الجهادي، لكن يونس وأثناء عودته إلى البلاد تقع له حادثة سير تودي بحياته. يمكن قراءة مسرحية بوسلهام، كونها تقدم خطابا حول العنف والتطرف، لكنه ليس بالخطاب الرسمي النمطي ولا بالدارج بين الناس، بل هو خطاب إنساني، يرى في ظاهرة التطرف الديني علامة على أزمة هوية وعلى شقاء داخلي. وفي كل الأحوال، مهما كانت دوافع الأبناء، التي تدفعهم إلى سلك هذا الطريق، فإن للأمهات رأيا آخر، إن يونس يظل ذلك الطفل في عين أمه سعيدة، تلك الرائحة المميزة، رائحة الطفولة الأولى، ومهما كانت الدوافع التي تدفع شابا طموحا مثل ابنها إلى اعتناق الفكر الجهادي، فإن الهوية المشروخة لشباب اليوم واتساع هيمنة الرأسمالية المتوحشة وفساد القيم وزيف الغرب والشرق، كلها عوامل تدفع إلى البحث عن بدائل، حتى وإن كانت هذه البدائل أشد دموية وبشاعة. ينتهي يونس في بطن الحوت، حوت الظلام، وحوت الموت، ولا نعرف من خلال العرض هل موت يونس كان بسبب حادثة سير عارضة أم إنه اغتيل، لكن العزاء الوحيد لسعيدة في أفلام بيدرو ألمودوفار، إنه وحده الذي يحقق المعادل الموضوعي. في هذا العرض أيضا حقق الثنائي، الممثلة القديرة فاطمة عاطف والشاب الناجح جدا هشام الإسماعيلي، حضورا كبيرا على الخشبة، مما يؤكد أن المسرح بالفعل فن نبيل.