عانت «بيتي باتول»، البلجيكية من أصل مغربي آلاما كثيرة منذ طفولتها، وصادفت حياتها العديد من الصعاب منذ أن كانت نطفة في بطن أمها، التي سعت بشتى الوسائل كي تجهضها فأصرت «الباتول بن الحول»، البالغة حاليا من العمر 45 سنة، على القدوم إلى هذا العالم. عاشت طفولة صعبة في كنف أسرة تنقلت كثيرا بين المغرب وبلجيكا، تعرضت لاعتداءات جنسية متكررة منذ أن كانت تبلغ من العمر أربع سنوات، اعتداءات وعنف ذاقت مرارته منذ الطفولة إلى حين البلوغ، لجأت إلى شرب الخمر لعلها تنسى آثار ما تعرضت له لكن ذلك ضاعف من معاناتها، حاولت الانتحار لكن لم يكن الطريق سهلا، حتى التقت برجل ساهم في تغيير مجرى حياتها فأصبحت إيجابية، درست وعملت وتزوجت وأنجبت أربعة أطفال. اختارت أن تدون سيرتها الذاتية في كتاب تحت عنوان «شقائق النعمان في الشتاء؟ لم لا..»، لعله ينير درب مثيلاتها ويشعر الجميع بمعاناة من يتعرضون للاعتداء الجنسي والعنف، ننشره على حلقات مع بعض التصرف الذي يقتضيه الاختصار. في صيف سنة 1974، كانت عودتنا إلى حيث تقطن أمي عابرة لأننا التحقنا بأبي في المغرب، ظلت أمي تعمل من جديد ببلجيكا من أجل مساعدة أبي على إتمام مشروعه. وكانت أختاي جميلة وماريزا تساعدان أبي، بينما التحقت أنا بمدرسة بمدينة الجديدة هي المدينة الأقرب والتي كانت تبعد بحوالي 37 كيلومترا. مكثت عند امرأة تعيش رفقة جدتها من أجل متابعة دراستي بشكل يومي، وكان الاتفاق بأن أمضي أسبوعا آكل وأنام مقابل مبلغ مالي دفعه أبي. كانت المرأة التي جرى الاتفاق على أن أجلس عندها عصرية وتعمل بإحدى الثانويات، تتحدث بطلاقة اللغة الفرنسية لكنها غير متزوجة وليس لديها أطفال، كانت تسكن بمنزل جميل، إنها امرأة جميلة لكنها كانت تخيفني بعينيها الكبيرتين والخضراوين. في يوم السبت من كل أسبوع كان أبي يأتي ليأخذني ليعيدني يوم الاثنين وكان يزورني بين الفينة والأخرى خلال أيام الأسبوع. وكان لابد أن أتعلم اللغة العربية حتى أكون تلميذة مجتهدة، وكان أستاذ يساعدني على ذلك. في البداية كنت مثل الغبية الفضولية، غير أن اسمي فقط لا يزعج أحدا، كنت أشعر أنني وحيدة في هذا العالم وكنت أمام خيارين إما العزلة أو التواصل، فاخترت الاختيار الثاني فكانت نتائجي جيدة حتى صرت الأولى في القسم. لم أستطع المضي قدما في التمدرس لأنه كانت تنتظرني التزامات أخرى يجب أن أنفذها في الجهة الأخرى، لم أفهم بسرعة ماذا يحصل لي خاصة أن هذه الفترة لم يكن الحديث عن سوء معاملة الأطفال الجسدي أو النفسي. لم أكن آخذ حصتي من التغذية العادية، كان ينتظرني صحن صغير مع بعض المواد بعد عودتي من المدرسة وكانت غالبا ما تكون وجبتي الوحيدة في اليوم كله.. بعد ذلك أقوم بالأعمال المنزلية من تنظيف وغسل الأواني وترتيب الصالون... كانت الأوامر تأتي من عند السيدة ذات العينين الخضراوين وعندما أنتهي أذهب لآخذ الدروس عند أستاذ اللغة العربية. ولأفهم ما يدور بمحيطي كانت تأخذني السيدة بانتظام إلى السوق ليس لأنها تريدني أن أتنزه ولكن لأحمل سلتها. فأنا تماما خادمة صغيرة كما هو الأمر في العديد من البيوت المغربية، فهؤلاء الفتيات اللواتي تتراوح سنهن ما بين 9و14 سنة، غالبا ما يخدمن من أجل أسرهن الفقيرة مقابل عمل منزلي غالبا مرهق يوفر لهن المأكل والملبس والمسكن وتتلقى العائلات مرتبا شهريا هزيلا ولكنه مفيد لها. عندما كنت أبلل فراشي كانت تعرضه خارجا أمام أعين الجيران، فكان يجب على الجميع أن يعرف بأنني متسخة وأن السيدة طيبة معي، رغم هذا العائق الكبير كانت هناك عائلة تسكن في المنزل المجاور استقبلتني عدة مرات وفي كل مرة أذهب عندهم لأبحث عن قليل من الراحة، كانت تستقبلني بكثير من الكرم رغم فقرها الشديد، في بعض الحالات كنت أقتسم معهم وجبتهم، وكانوا يقدمون لي الشاي وبعض الحلويات. حاولت التواصل مع ابنتي هذه العائلة الكريمة، فهما لا تتحدثان الفرنسية فبذلت مجهودا كي أتواصل معهما بلغتهما وهذا ما جعلني أطور لغتي العربية، كانتا تقومان بالأعمال المنزلية المرهقة دون تذمر، إنها عائلة طيبة وأحببتهم فعلا. ذات يوم طلبت مني «المديرة» أن أرافقها في زيارة لها لصديقتها خديجة. لأنه من الأفضل أن تتجول مع خادمتها الصغيرة خاصة إذا كانت أمها أوروبية. لخديجة أخت صغيرة اسمها أمينة تتابع دراستها بمدرسة فرنسية خاصة، استطعت التواصل معها لأنها تتحدث لغتي وفي مثل سني، وكانت أيضا أمينة مسرورة بلقائي، لكن هذا لم يدم طويلا، فعندما حان وقت العودة شعرت بالحزن. انتظرت بتلهف الزيارة المقبلة فاقترحت على السيدة أثناء عودتنا أن نكرر الزيارة حتى ألعب مع صديقتي الجديدة لكن يبدو أنها كانت تقول «فتاة سخيفة». مرت الأيام وتوقفت الزيارات، فلم أستطع زيارة أمينة وقضاء وقت معها، فتمنيت أن يأتي يوم أستطيع الذهاب مع السيدة حتى أقضي بعض الوقت مع أمينة، خاصة أنني أشعر براحة عندما أجد من يتفهمني وأتحدث معه، عندما حل هذا اليوم ذهبت والفرحة تغمرني وكنت أفكر فيما سنتحدث فيه. عندما اقتربنا من المنزل طلبت مني السيدة أن أنتظرها عند عتبة منزل ما، قائلة إنها ترغب في أن تتأكد هل صديقتها موجودة في المنزل أم لا، رأيتها وهي تبتعد، أسدل الليل ستاره، مر وقت وأنا جالسة أنتظرها في الظلام، وبقيت أتساءل، لماذا لم تأخذني معها؟ إذا لم تجد أحدا كان يمكن أن تعود منذ فترة، ربما هناك مشكل ما ؟ عندما عادت أخيرا ظننت أنها أتت لتصحبني عند صديقتها، اقتربت مني وقالت لي: أمينة تسلم عليك. عندما دخلنا إلى المنزل دون أن أقول كلمة لم أفهم هذا السلوك، لم أكن أعرف أن الراشدين قادرون على فعل كل هذا الشر، جلست على الأريكة التي هي سريري، فذرفت دموعا، كان قلبي مكسورا لأنني فهمت أنها لن تأخذني معها أبدا حتى وإن رافقتها لأنها ستجعلني أنتظر في عتبة منزل وحيدة في الليل. ذات يوم زارني أبي وأختاي، فرأت أختي جميلة وجهي الحزين فقالت لي: -هل أنت بخير أختي؟ شعرت بضغط كبير فانفجرت قائلة: لا، العيش هنا قاس لا أريد البقاء هنا بعد الآن... لم أعد أتحمل مواقف السيدة مع صديقتي وكفاني من الإذلال الذي أتعرض له كلما بللت فراشي، ظن أبي أن ما أقوله لحظي ولكن عندما حكيت له كل شيء فهم أن هناك إخلالا بالالتزامات التعاقدية، إضافة إلى أن الأكل بالنسبة له شيء أساسي، فقرر بسرعة أن أبقى في هذا المنزل إلى حين إنهاء سنتي الدراسية على أن نجد عائلة أخرى.